كانت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا عملاً غير مسبوق منذ نهاية الحرب الباردة لجأت إليه روسيا بعد أن استنفدت كل الوسائل الدبلوماسية لمواجهة اكتمال عملية تطويق حلف شمال الأطلسي (الناتو) لها بضم أوكرانيا إلى عضويته. وعندما بدا أن دعم الحلف لأوكرانيا في مواجهة العملية العسكرية الروسية قد بدأ يؤتي ثمارَه، بل وبدأ الحديث في دوائر الحلف عن هزيمة روسيا في الحرب، ردت موسكو بالتلميح إلى أن الدول النووية لا تُهْزَم، وكانت الرسالة واضحة، بمعنى أن هذا السيناريو لو حدث سيُلجئ روسيا إلى استخدام السلاح النووي دفاعاً عن بقائها.
ثم واجه العالَم في الآونة الأخيرة موجةً أخرى من مخاطر التصعيد بعد أن بدا واضحاً أن روسيا تحقق تقدماً مضطرداً، وإن لم تحسم الحرب بعد. وسواء أكان هذا التقدم نتيجةً طبيعية لميزان القوى في الصراع أم بسبب تناقص الدعم الأميركي خاصةً لأوكرانيا بسبب القيود التي فرضها مجلس النواب ذو الأغلبية «الجمهورية» على هذا الدعم، فإن موجة التصعيد الأخيرة تمثلت في تصريحات أوروبية أساساً كان أهمها تصريح الرئيس الفرنسي بما معناه أن إرسالَ قوات غربية إلى أوكرانيا لم يعد مستبعداً. ورغم المعارضة الأوروبية، والموقف الرافض من قوى سياسية داخل فرنسا نفسها، لهذه التصريحات، فإن دلالتَها التصعيدية لم يكن من الممكن تجاهلها، خاصةً وأنها جاءت متسقةً مع المزاج العام لتصريحات أطلسية وأوروبية عن مخاطر انتصار روسيا في الحرب، وكيف يمثل هذا الانتصار تهديداً للأمن الأوروبي بل للنظام الدولي! واتسقت كذلك مع المناورات الواسعة لحلف شمال الأطلسي التي بدأت في يناير الماضي واستمرت حتى مارس، وقد صرح القائد الأعلى لقوات الحلف الغربي بأن المناورات دليل على وحدة الحلف وقوته وتصميمه على حماية جميع أعضائه.
وربما مثلت التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء البولندي ذروة ذلك المزاج عندما تحدث في 29 مارس الماضي عن أن الحرب لم تعد من مفاهيم الماضي، وأن كل السيناريوهات ممكنة، وأن الوضع الراهن غير مسبوق منذ عام 1945. ورغم نفي القيادة الروسية بشكل قاطع أيَّ نوايا للهجوم على أي دولة من دول الحلف، فإن ذلك لم يُجدِ نفعاً في مواجهة هذه الموجة التصعيدية الجديدة.
وفي هذا السياق التصعيدي نزلت تصريحات الأميرال الهولندي روب باور، رئيس اللجنة العسكرية لحلف «الناتو»، برداً وسلاماً على كل الحريصين على تجنيب العالَم ويلات تصعيد يعلم الله وحده ما الذي يمكن أن يفضي إليه من دمار للبشرية. فقد صرح الرجل في 30 مارس المنصرم، أي بعد التصريحات التصعيدية لرئيس الوزراء البولندي بيوم واحد، بأنه لا توجد أي مؤشرات تدل على أن روسيا تخطط لغزو أي دولة في الحلف، وأضاف: «لا أرى أي تهديد مباشر». ومن شأن هذا التصريح العاقل أن ينزع الفتيلَ من قنبلة التصعيد التي وَجدت الكثيرَ من المتحمسين لها. ومما يعطي لهذا التصريح صدقيةً أن الرجل تحدث عن طموحات لروسيا خارج أوكرانيا، وأكد أن الحلف يجب أن يكون جاهزاً بشكل عام، لكنه شدد على أن تطبيق المادة 5 من ميثاق الحلف لا يمكن إلا في حال شن هجوم مباشر على إحدى دوله. إنه ليس رجلًا ساذجاً، لكنه يتحدث عن مؤشرات واقعية من شأنها أن توقف هستيريا التصعيد أو على الأقل تدعو للتعامل معها بصوت العقل.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة