في ظل عالم متغير وحتمية التحول ناحية مفاهيم جديدة لفكرة القوة وانقسام مفهوم القوة التي تمتلكها الدول إلى قوة صلبة وقوة ناعمة، وبعد أن ظل مفهوم القوة الناعمة راكداً أمام سطوة القوى الصلبة، تطور النظام العالمي ومع سيطرة التكنولوجيا وبدأت القوة الناعمة تنمو أهميتها النسبية، وتزداد مع الوقت، وتيقن العالم إلى ضرورة دمج القوة الناعمة في سياق ممارسات القوة الصلبة، وترك مساحة كافية لوجودها وتأثيرها.
ظهر مفهوم القوة الناعمة أول مرة مع أطروحات المفكر الأميركي جوزيف ناي الذي رآها الجاذبية التي تتمتع بها الدولة والناتجة ثقافتها بكافة روافدها ومكوناتها وقيمها ومصداقيتها المتولدة عن ممارساتها المتسقة مع هذه القيم، وأشار إلى ضرورة عدم تجاهل هذا الجانب نتيجة التركيز على القوة الصلبة بروافدها العسكرية والسياسية والاقتصادية، والتي حظيت بمكانة محورية في أدبيات العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، ثم تعددت محاولات التنظير لمفهوم القوة الناعمة والتي لم تخرج من السياق العام للمفهوم الذي ساقه جوزيف ناي.
القوة الناعمة أصبحت نهجاً إماراتياً منذ سنوات عديدة للتأثير والتغيير في الرأي العام والاجتماعي من خلال الفنون، الآداب، والدبلوماسية المرنة. وتسعى الإمارات لتجسيد هذه القوة في مجموعة من القيم والمبادئ الإيجابية، كما تقدم الدولة أيضاً دعماً كبيراً في مجالات البنية التحتية، الغذاء، الصحة والتعليم للدول المحتاجة. أصبحت القوة الناعمة الإماراتية طريقة أساسية لكسب العقول والعواطف، عبر التسامح الذي يمثل جزءاً أصيلاً في الموروث القيمي الإماراتي.
استخدمت الإمارات معطياتها الإنسانية والاقتصادية والتنموية في تعزيز قوتها الناعمة من خلال الدبلوماسية الثقافية، حيث تحرص على ترويج الثقافة الإماراتية عبر المعارض الفنية، المهرجانات، والأحداث الثقافية الدولية. كما أنها استخدمت القوة الاقتصادية في دعم قوتها الناعمة من خلال الاستثمارات الاقتصادية والاتفاقات التجارية كوسيلة لبناء علاقات إيجابية مع الدول الأخرى. وساهم تطوير مؤسسات التعليم والبحث العلمي ذات المستوى العالمي لجذب الطلاب والباحثين الدوليين. فضلاً عن تعزيز قدرات الإمارات كوجهة سياحية عالمية من خلال الفعاليات الكبرى مثل معرض إكسبو2020 و«كوب28». ودعمت الإمارات الابتكار والاستثمار في مجالات التكنولوجيا لتصبح مركزاً عالمياً للابتكار، والعمل الإنساني والتنمية بتقديم المساعدات الإنسانية والمشاريع التنموية في أنحاء مختلفة من العالم.
من خلال هذه الأدوات، تمكنت الإمارات من بناء صورة إيجابية لنفسها على النطاق العالمي، وتعزيز مكانتها كدولة مؤثرة في الساحة الدولية.
يقف الإعلام والفنون المرئية على حدود التأثير في القوة الناعمة الإماراتية، ويحتاجان إلى الدعم والدفع إلى عمق التأثير الفعال في القوة الناعمة الإماراتية. الواقع يقول إن الإمارات تستضيف على أرضها العديد من القنوات الإعلامية الدولية، ولكن هذا لا يخدم القوة الناعمة الإماراتية، بقدر توفر قنوات إعلامية إماراتية خالصة مؤثرة تتبنى العمق الإنساني والثقافي البشري من منظور العيون الإماراتية تعبر عن الثقافة الإماراتية، وتظهر قوتها الناعمة بكل معطياتها الإيجابية. قنوات إعلامية تفرض وجودها المهني، عبر الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي، بعباءة إماراتية خالصة.
كما أن الإنتاج الفني، سواء السينمائي أو التليفزيوني الإماراتي، ما زال بعيداً عن امتلاك مساحة في الساحة الإبداعية العربية، فما بالنا بتواجده في الساحة الإبداعية الدولية؟ القضية ليست في القدرات الاقتصادية التي تخدم القطاع الإعلامي والإنتاج الفني المرئي، بل في تكوين كوادر إماراتية قادرة على دعم المجالين وإعادة هيكلة قوتهما الاقتصادية بصورة إبداعية تصنع نموذجاً مهنياً إعلامياً ومرئياً إماراتياً بصبغة إنسانية. ولا ننسى أن القوة الإعلامية والمرئية للولايات المتحدة الأميركية هما القاعدة التي بنت عليها بنيان قوتها الناعمة المسيطرة والمتغلغلة في كل ركن من أركان العالم.
ونحن على أعتاب تحولات جيوسياسية دولية ومنطقة تعاني اضطرابات وصراعات، استطاعت الإمارات السير بحكمة في طريقها نحو المستقبل، لكن هذا لا يمنع حدوث أي مؤثرات سلبية، ومن هنا جاء المفهوم الأحدث وهو مفهوم القوة الذكية، وهي القوة التي تخلق حالة تمازج ودمج ما بين القوة الصلبة للدولة والقوة الناعمة لتحقيق أكبر قدر من القوة اللازمة لدعم الاستقرار والسلم الداخلي وحماية مقدرات الوطن عبر مظلة القوة الذكية، والتي تعمل قيادتنا الحكيمة على تدعيمها خلال السنوات الأخيرة بصورة متسارعة تتناسب مع سرعة التحولات التي تحدث في المجتمع الإنساني.
*أستاذ زائر بكلية التقنية العليا للبنات، وباحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي