طروحات إصلاح الخطاب الديني أو تجديده أو تحديثه على الفروقات بينها، إلا أنها تشير لضرورة من ضرورات الحياة المعاصرة في العالم الإسلامي، لا لمواجهة التطرف والإرهاب فحسب، بل لمواجهة التحديات وفتح آفاق الطموح وعدم الركون إلى القديم لقدمه أو فرض الرأي الأكثر تشدداً في الفتاوى ونشره في الخطب وبثه في وسائل التواصل.

تطورت الأديان في نظرتها للإنسان والكون والحياة بحسب طبيعة البشر ومنطق التاريخ وتطورات العلم، ولكل دينٍ وثقافةٍ وحضارةٍ سياقٌ يختلف عن غيره، فبعض الأديان تطوّر بحسب حاجات المجتمعات والأفراد والدول بشكلٍ متدرجٍ، وبعضها تطوّر بشكلٍ ثوريٍ ودمويٍ عنيفٍ، مثلما جرى لعلاقة الكنيسة بالدولة والمجتمع في أوروبا، وكما أنه لكل دينٍ سياقٌ مختلفٌ، فكذلك داخل الدين الواحد لكل منطقة جغرافية شاسعةٍ سياقات متباينة يحكمها الإرث الفقهي والجدل الفلسفي والمذاهب السائدة فقهياً وعقدياً وسلوكياً، ففي الإسلام، وهو يمتد على مساحة القارات الخمس، لا يمكن أن يكون «الإسلام الهندي» على نفس سياق «الإسلام الأوروبي».

في مشروعٍ فلسفي وفكري يستحق الإشادة، تبني المفكر التونسي عبدالمجيد الشرفي قبل سنواتٍ مشروعاً كبيراً تحت عنوان «الإسلام واحداً ومتعدداً»، كتب فيه عدد من الباحثين المتخصصين والمثقفين والأكاديميين لرصد نماذج من الفروقات بين قراءات متعددة للإسلام، اختلفت بحسب العديد من المتغيرات الموضوعية في المكان والزمان والإنسان، وكان من تلك الكتب على سبيل المثال: «الإسلام السني» و«الإسلام العربي» و«الإسلام الأسود» و«إسلام الفلاسفة» و«إسلام الفقهاء»، وغيرها من الإصدارات المختلفة.

في الإسلام ومنذ عصوره المتقدمة كان في أتباعه من يميل بطبيعته للتيسير في مسائل الفقه وفيهم من يختار التشدد، مثل مدرستي ابن عباس وابن عمر من الصحابة، وكان الصحابي أبي ذرٍ يرى الشدة في مسائل يخالفه فيها كبار الصحابة في وقته، واستمر هذا فيما بعد في العصور الإسلامية اللاحقة، وهو جزء من طبائع البشر وميولهم الشخصية والبيئات التي ينشؤون فيها، ولذلك فسيبقى مع البشر ما بقوا.

رصد الفروق المهمة بين المتشابهات هو أحد فروع العلوم حين تتشعب وتتعمق وتتمايز، ويهمنا في هذا السياق تفريقان، الأول، بين التشدد الشخصي والفتوى العامة، والثاني، بين التشدد والإرهاب، وهما تفريقان مهمان لقراءة الأوضاع المعاصرة في العالم الإسلامي في ظل جدلٍ لن ينتهي حول العديد من المسائل الفقهية الكبرى والصغرى.

الأول، هناك فرقٌ كبيرٌ بين أن يتشدد الإنسان أو الفقيه على نفسه وفي شأنه الشخصي وخياراته في الحياة وله في ذلك كامل الحرية، ما لم يخالف الأنظمة والقوانين العامة أو تضرّ خياراته الشخصية بمن حوله أو بمن يعول، وبين أن يسعى لفرض هذا التشدد على الناس كافة، عبر فتاوى يصدرها أو خطابات يروجها، أو عبر الموقف من ممارساتٍ اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية يحث عليها أو يرفضها، فهذا شأن عامٌ وليس شخصياً ويحق للجميع حينها توجيه النقد لخطابه وفتواه ومواقفه.

الثاني، أن التشدد الفقهي غير الإرهاب، فالتشدد الفقهي عند توسيعه وطرده في المسائل المختلفة قد يؤدي إلى الإرهاب، وقد يبقى خياراً مطروحاً وخطاباً منزوياً في المجتمع، والإرهاب على الرغم من تشدده الظاهر فهو يتساهل في أشياء كثيرةٍ، أشهرها التساهل في الدماء المعصومة، ومن ذلك التساهل في كثيرٍ من المسائل الفقهية التفصيلية، فالتفريق هنا يمنح رؤية أكثر شمولاً ودقة في التوصيف والفهم. أخيراً، فمع المواسم الروحانية مثل رمضان والحج وعيدي الفطر والأضحى تنتشر فتاوى مختلفة في مسائل فقهية تفصيلية، وكما تعود الناس فالمتشدد سيفرض عليه تطور المجتمع أن يغير رأيه ولو بعد حين، وكل عامٍ وأنتم بخير.

*كاتب سعودي