المعركة الانتخابية في الولايات المتحدة ليست ببساطةِ ما تصوره الأخبارُ لتقتصر على معركة بين الحزبين «الجمهوري» و«الديمقراطي». هناك تفاعلات شديدة التعقيد وكثيرة التشابك داخل كلا الحزبين، كل تفاعل أو اشتباك منها يعكس عمقاً في شبكات واسعة من المصالح وجماعات الضغط واللوبيات التي تقف وراءها، وكل جماعة ضغط أو لوبي مصالح هو بحد ذاته امتداد أكثر عمقاً لتحالفات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية موجودة في المجتمع الأميركي نفسه. وكل هذا بمجمل عناصره الكثيرة جداً هو بالضبط ساحة المعركة التي لا تهدأ ولا تتوقف للوصول إلى مركز صانع القرار الأساسي الذي سيسكن في شارع بنسلفانيا بواشنطن العاصمة، ويدير أمورَ «الأمة» والعالَم من ذلك البيت الأبيض.
وحتى الإدارة نفسها هي أيضاً خاضعة لذات المتغيرات والمعطيات المعقدة التي ذكرناها، فقرار الرئيس الأميركي – أي رئيس أميركي - ليس سهلاً، بل كثير من قراراته ربما تكون إلى حد كبير عكس رغبته الشخصية، لكنها في المحصلة من مخرجات معارك طويلة بين شد وجذب وأخذ ورد بين جماعات الضغط، ومَن يمثلهم في غرفتي الكونغرس، وفي الشركات الممولة لهم، والقادرة على تغيير التوازنات السياسية بتوجهات مجالس إدارتها. لكن موقع الرئيس وإدارته يبقى الأكثر أهميةً، لأنه المسيطر على الأجهزة التنفيذية الفدرالية القادرة في كثير من الأوقات على خوض تلك المعارك لصالح إدارة الجالس في البيت الأبيض.
واليوم، تتوارد الأخبار من الولايات المتحدة حول السباق المحموم نحو البيت الأبيض، وحين أقرأ الأرقام التي تتحدث عن تقدم أحد الحزبين والمعارك بين رموز قيادية في كل حزب، أدرك حجمَ المعارك الخفية خلف الكواليس، وإن كان ما يصلنا منها مجرد أرقام صماء كهذه التي تظهر في نتائج استطلاعات الرأي.
ويمكن لمن يتتبع التفاصيل الداخلية أن يكتشف حجم الصراع الديناميكي الضخم بين الشركات والمصالح الاقتصادية العملاقة، ورجال المال والأعمال واللوبيات التي تجمعهم في جماعات تتقاطع أو تتناقض مع بعضها، ومعهم ساسة يؤمنون بالفكرة، أو يحتاجون للتمويل ضمن أُطر القانون المنظِّم. إنه نظام انتخابي تطور على مَرِّ السنوات والعقود، منذ نشأة الدولة الأميركية وحتى الآن، وانعكس تطوره على السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة.
ومن ذلك على سبيل المثال أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة كانت ملتزمة بعدم التدخل في أي صراعات خارج حدودها، وذلك منذ الرئيس الأميركي الأول جورج واشنطن، وصولاً إلى مبدأ مونرو الذي كرس الانعزالية، إلى أن جاءت الحرب العالمية الثانية التي كسرت العزلة الخارجية الطويلة لواشنطن. وكانت الحرب تبريراً مقنعاً بأيدي جماعات المصالح وشركات تصنيع السلاح والساسة المؤمنين بفكرة القوة الأميركية والشركات الباحثة عن أسواق جديدة خلف الأطلسي.. ليتقاطعوا جميعاً في مبدأ التدخل، فكان هجوم اليابان القوي على ميناء بيرل هاربر الشرارة التي حركت التدخل الأميركي، والذي سيكون حاسماً في إنهاء الحرب ليبدأ عصر الإمبراطورية التوسعية.
وهناك اليوم تيارٌ قوي في الحزب الجمهوري يدعو إلى استعادة مفهوم الانعزال الأميركي وتحديد مساحات التدخل، وهذا ليس خبراً جيداً بمجمله، فهو يعني ارتدادات في موازين القوى العالمية، وإعادة تموضع جديد في تلك القوى، مما ستكون له هزات ارتدادية عاصفة.
وخلاصة القول، إن الأرقام الباردة التي نقرأها إنما تخفي عواصفَ وأعاصيرَ من التشابكات والمصالح المتصارعة، لا نراها، لكنها تنتهي في المحصلة على شكل سياسات تؤثر في العالم كله.

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا