ورثت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية عن بريطانيا مهمة دعم دولة إسرائيل، وكانت الإمبراطورية التي غابت عنها الشمس قد تولت مهمة دعم مشروع الحركة الصهيونية بإقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وقدمت لهذا المشروع خدمات تأسيسية تمثلت في «إعلان بلفور» عام 1917 الذي أعلن تأييدَ فكرة إقامة «وطن قومي» لليهود في فلسطين، ففتحت أبوابَها للهجرة اليهودية بعد أن ولّتها «عصبة الأمم» الانتدابَ عليها عام 1922، فأسس المهاجرون البنية التحتية للدولة المأمولة، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. وعندما اكتملت هذه البنية انسحبت بريطانيا بليل، لكي يعلن بن جوريون دولةَ إسرائيل في 15 مايو 1948. ولأن الأيام دول، فقد أفضت الحرب العالمية الثانية إلى انتقال قيادة المعسكر الرأسمالي الغربي إلى الولايات المتحدة، وعلى الفور سارعت الحركة الصهيونية بمد خيوط التحالف الوثيق معها من خلال النفوذ المالي والإعلامي لأعضائها الأميركيين. وقد كانت الحركةُ شديدة الوعي بضرورة أن تكون لها شبكة علاقات استراتيجية وثيقة مع القوى العالمية كافة، لا سيما أقواها. وبالفعل، وكما ورثت الولايات المتحدة بريطانيا في قيادة المعسكر الرأسمالي، ورثتها في تأييد دولة إسرائيل. وسرعان ما تبلور نموذجٌ للدعم الأميركي شبه المطلق لإسرائيل، ربما لم يهتز إلا في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، والذي شاركت فيه إسرائيل، وأصرت بعد انتهائه على عدم الانسحاب من سيناء وقطاع غزة، لكن الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور صمم على انسحابها. كان يُخطط لنموذج جديد للقيادة لا مكان فيه لأعمال العدوان المباشر، وقد نجح في ذلك، غير أن هذا العمل كان بمثابة «بيضة الديك»، كما يقولون، فلم ترتق كل الخلافات التي ثارت لاحقاً بين السياستين الأميركية والإسرائيلية إلى مستوى ما وقع في عام 1957/1956.
وعندما بدأت إسرائيل حربَها الحالية في قطاع غزة، بدا واضحاً أن نموذج العلاقات الأميركية الإسرائيلية يعمل بكفاءة تامة، سواء من ناحية الدعم الدبلوماسي المطلق للأهداف الإسرائيلية من وراء الحرب، وبالذات بالوقوف ضد أي جهد دولي لاستصدار قرار من مجلس الأمن يوجب وقفَ القتال، فاستُخدم الفيتو الأميركي غير ما مرة ضد مشروعات قرارات بهذا الصدد، أو من ناحية الدعم العسكري بكل ما تحتاجه إسرائيل من أسلحة وذخائر دون مرور بالكونجرس، ناهيك بتوفير ظهير من الوجود العسكري كرادع لتوسع نطاق الحرب إلى حرب إقليمية.
ومع تزايد أعداد الضحايا الفلسطينيين، وتدمير مقومات الحياة في غزة بدأت تظهر اتجاهات معارضة لسلوك إسرائيل، حتى داخل الدوائر الغربية المعروفة أصلاً بتعاطفها مع إسرائيل، وانعكس ذلك في تغير لهجة الخطاب السياسي الأميركي الرسمي باتجاه حث إسرائيل على تخفيف ضرباتها، وزيادة دخول المساعدات. ومع إصرار إسرائيل على مواصلة نهجها، تصاعدت الضغوط داخل الرأي العام الأميركي لدرجة باتت تهدد بانسلاخ شرائح من القطاعات المؤيدة لبايدن عن قاعدة تأييده.
ومن هنا أصبحت «غزة» قضية داخلية، بمعنى أنها يمكن أن تؤثر في نتائج السباق الرئاسي، خاصة أن ترامب يتقدم على بايدن حتى الآن في استطلاعات الرأي، وبالتالي فإن معضلة بايدن باتت تتمثل في ضرورة الموازنة بين مزيد من التشدد ضد إسرائيل كي لا يخسر أصوات المتعاطفين مع الفلسطينيين من جانب، وبين الحفاظ على دعمه لإسرائيل من جانب آخر كي لا يخسر دعم الباقين على تأييدهم لها.. ويالها من معضلة!

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة