إن الإجابة على التساؤلات الدائرة حول كل من الدين والعقل، والتعامل معها كجدلية لا يمكن بناؤها من دون الأخذ بعين الاعتبار الموقف الإنساني الأصيل من المنهج المادي الذي يعتمد بالمطلق على التجريب، وفي ذات الوقت النظر لمكنون وماهية الروح في عقل ووجدان الباحث في القضايا ذات الصلة. لكن في ذات الوقت، لا بد لنا من توفير «روح النقد» السليم، وذلك بالانطلاق من أرضية صلبة، فنقد العقل للدين إذا كان العقل نفسه غير متزن لن يفضي إلى رؤية صحيحة، وإن كان متزناً لكن الدين مشوب بضبابية أو اجتزاء فلا يمكن الاعتداد بالرأي النقدي الناتج ولا اعتباره ناضجاً إلا على العينة التي تناولها. ومن ناحية ثانية، فإن النقد حتى يرتقي بأهدافه لا بد أن ينطلق من خلفية موضوعية خالية من الآيديولوجيا، ومن السعي لإثبات رأي يسبق التدارس والإمعان، وبالتالي فإن النقد الفلسفي والعقلي للدين لا يصح إلا بشروط ومحددات تضمن سلامتَه من المآزق الفكرية.
وبصورة أوسع وأكثر عمقاً، فإن البيئة التي تحتضن عملية التفلسف جديرة بأن توضع في سياق معاينة الحصاد الفكري والاستفادة منه، إذ تشكل الخلفية الثقافية والاجتماعية والسياسية مؤثراً قوياً ومباشراً فيما يرد تالياً عليها، وهذا لا يعد البتة من باب الغلو والتصعيب والتعقيد، فكم من مبدع ومفكر وفيلسوف ورجل دين أحيلت أفكاره للزوال على مر التاريخ وامتداده؟ وكم من عالم صاحب حق وعلم وافر آمن به الناس بعد نفيه وفنائه؟ وكم من نظرية نطبق حذافيرها في واقعنا بعد أن هجرت على الرفوف حتى علاها غبارُ الإهمال والازدراء؟
وفي السياق الذي يتناول التفكير النقدي العقلي حول الدين، يشار دائماً إلى الفيلسوف الكبير إيمانويل كانط، وكتاب «نقد العقل العملي»، الذي أحدث ضجة كبرى في حينه بدعوته إلى التفكير المعمق في مجال الدين، رغم أنه لم ينفصل عن زمانه الذي نعت حينها بـ«عصر التنوير» المعروف باستناده وبكل ما أوتي من قوة على العقل، الذي أُخذ به حينها «مرجعيةً سامية» على ما سواها، الأمر الذي فسر شيوع «عقيدة العقل» من دون الرغبة في الالتفاف حول الدين الذي اقتصر حينها على اعتباره «الدين الطبيعي» لا أكثر!
وفي الالتفات للإنتاج الفلسفي والنقدي الكانطي، نجد ملامح التأثر الواضحة ببيئته وأحداثها وتجاربها التاريخية الخاصة، إذ تبدو فلسفتُه متشبعةً بتأثير بدا جله قبل وأثناء وبعد فترة حياته، وما فيها من تفاصيل حروب دينية وطائفية ونزاعات عقدية استنزفت الكثير من الطاقات.. الأمر الذي يبدو واضحاً في تكوينه النفسي والفكري عند تتبع مؤلفاته التي أظهرت جميعُها انعكاساتٍ واضحةً لهذا التأثر.
إن التناول العقلي النقدي للدين، سواء أكان على يد كانط أم على يد غيره، لا يعني التسليم بكل ما ينتجه العقل البشري لمجرد ارتفاع مقام منتجه، سواء أكان فيلسوفاً أم عالم طبيعيات أم عالم دين.. أو سوى ذلك. وهنا يلجأ أصحاب الخطاب النقدي العقلي حول الدين إلى شروحات حول القداسة وفحواها، وهو موضوع لسنا بصدد الحديث عنه الآن في هذه المساحة، لكن المؤكد أن المقصود هو التأني في الأخذ أو الرفض، وليس غير ذلك، وبخاصة على ضوء الاستفادة القصوى من التجارب الإنسانية «الفاشلة» الكثيرة، وإن كان الفشل لا يعني انتهاء الصلاحية، بل يعني خبرةً جديدةً لصاحبها، وخبرةً مجانيةً لمن يعيد قراءتَها مستفيداً منها، باعتبارها نقاط تنبيه ونافذة جديدة على أفق لم يكن ظاهراً مِن قبلْ.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة