لفتني تعليق غاية في التجرد والمصداقية لأحد الفنانين السوريين أثناء إجابته على سؤال يقول: لماذا يطغى العنف على الأعمال الفنية لديكم؟ ولأن هذا الفنان جزء من عمل فني رمضاني تميز ببعض مشاهد العنف والدماء والأعمال الإرهابية لعصابات تقطن الكهوف وتمارس التهريب وغسيل الأموال فإن إجابته كانت: «هذا نتاج طبيعي لنفوس بشرية شوهتها الحروب والصراعات على أرض الواقع، فالتفكك الأسري والفقر وتسيد الفوضى.. مخرجاتُ هذا الواقع المرير خلال هذه السنوات، والواقع أننا مررنا بأحداث أقسى وأكثر عنفاً ودمويةً مما عُرض على الشاشة». وهذا التعليق واقعي حد الألم في بلد استوطنته تنظيمات الدماء والدمار والموت حتى فقد الموت هيبته ووقاره!
الراصد للأعمال الفنية العربية لأكثر من عقد ونيف سوف يلاحظ أنها تغيرت بشكل كبير وفقاً للظروف التي مرت بها المنطقة العربية من صراعات وعنف، لا سيما خلال ما سُمي «الربيع العربي» وما رافقه من انقسامات وتداعيات سياسية خطيرة وتشظ اجتماعي وطائفيات وتغليب العنف على السلام في معظم الدول التي تأثرت بموجة الأحداث حتى باتت الكثيرُ من المناطق العربية محاضن للإرهاب وللجماعات المتطرفة التي اتخذت لها فيما بعد دولاً وزعامات وأمراء حروب، تمارس أبشع الجرائم الإنسانية بعقيدة استبدادية دموية مثل «دولة داعش» التي امتدت في العراق والشام وخلفت المرارات والمآسي التي لم تكن تخطر على بال إنسان عربي في يوم من حياته. وهذا بالإضافة إلى بعض الجماعات المتفرقة في المنطقة، مثل «جبهة النصرة» و«جيش الإسلام» و«بوكو حرام».. وغيرها من التنظيمات الإرهابية التي أفرزها «الربيع العربي»، علاوةً على ما سبق ذلك من جماعات كامنة أو متفرعة من تنظيمات أخرى ك«القاعدة» و«الإخوان».. إلخ، فكل هذه الأسباب مجتمعةً كانت السبب المباشر للواقع المؤسف لدى بعض الدول العربية الشقيقة التي أصبحت مراتع لهذه الآفات الإرهابية، لتتشكل بالتالي منظومة اجتماعية قلقة، خائفة وموتورة، تغلب فيها سطوة المال والجريمة وعوامل الفوضى والعنف على عوامل الإنسانية والتنمية والأمان، بعد أن كانت آمنةً ومستقرة.
إذا كان هذا هو الواقع الحقيقي، بعد سنوات الصراع وسطوة القتل والإرهاب، فماذا عساه سيعكس الفنُّ الجادُّ من واقع غير ما يحدث أو ما حدث فعلاً على الأرض؟!
الفن الحقيقي رسالة ومرآة معاً، رسالة تحمل القيم الإنسانية وغلبة الفضائل والخير ولو بعد حين، ورسالة سلام ومبادئ توضح السلوكيات التي يجب أن يتلقاها النشء فتحفّزهم للخير والحق والإنسانية والأمان الفكري. والفن مرآة تعكس كل السلوكيات البشرية والأحداث الحقيقية داخل البيئة التي تقدم هذا الفن. وعندما نريد قياسَ المستوى الحضاري لشعب ما، فعلينا أن نتابع فنَّه وقدرتَه على تصوير الواقع الإنساني ناهيك عن المستوى الاجتماعي والمعيشي والأوضاع السياسية التي تقدمها بعض الأعمال الناجحة.
بدأ الفن عالمياً كمظهر من مظاهر «المحاكاة»، أي محاكاة الواقع، وحين يبتعد بنا الفن عن الواقع فإنه يصبح فناً مبتذلاً لا روحَ فيه. فالفن نمط من الإدراك يؤسس علاقة مع الواقع ويقدم من خلاله تمثيلاً شاملاً «ومحاكاة» له. ومن التناقض أن يصرفنا الفن عن الواقع ليصبح وسيلة للترفيه ولإلهاء أنفسنا وملء الفراغ. نعم الفن لم يوجد كي يكون إصلاحياً، ولكن يكفي في بعض الأحيان أن يسلط صنّاعُه الضوءَ على الخلل حتى وإن لم تتوفر الحلول. وكم معضلة في العالم قدمها الفن بمحتوى درامي ساهم في حلها! إذاً الفن لا يعكس الواقع فحسب، بل يشكله أيضاً.