تُوصف العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي وفرنسا بأنّها علاقات استراتيجية بعيدة المدى، ومتعددة الأبعاد، وذات جذورٍ تاريخية. وربما تعود مقدمات العلاقات الخليجية - الفرنسية إلى الحملة الفرنسية على مصر والشام أواخر القرن التاسع عشر، وما أعقبها من تفاعلات إقليمية. ولَئن كان للانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان عقب الحرب العالمية الأولى انعكاساتٌ سلبية على الصورة الفرنسية لدى أبناء الخليج، فإنّ دور فرنسا في دعم القضايا العربية في الأمم المتحدة، وفي حرب تحرير الكويت عام 1991، وجهودها في إطار الاتحاد الأوروبي لتطوير العلاقات مع مجلس التعاون الخليجي كان له تأثير إيجابي في الدفع بالعلاقات الخليجية - الفرنسية قُدماً.

والواقع أنّ رغبة الطرفين في تطوير علاقاتهما تقاطعت بشكلٍ كبير ومدهش خلال السنوات الأخيرة، فمن ناحية، تتابع دول الخليج سياسات خارجية تهدف إلى تنويع الشركاء، من أجل توسيع خياراتها الاقتصادية والسياسية والأمنية، والحفاظ على استقلالها الاستراتيجي. كما يسعى مجلس التعاون منذ أمد غير قصير إلى تطوير علاقات تعاونية مع الاتحاد الأوروبي، بهدف التوصل إلى اتفاقية تجارة حرة بين الجانبين.

ومن ناحية أخرى، تمثل دول الخليج، في المنظور الفرنسي، شريكاً استراتيجياً رئيسياً في المنطقة، وتسعى فرنسا إلى تعزيز دورها في المنطقة ربما تعويضاً عن تراجع نفوذها التقليدي في القارة الأفريقية. وفي هذا الخصوص، تسعى باريس إلى تقديم نفسها باعتبارها «قوة توازن» في المنطقة، تجعلها جذابة للتوجهات الخارجية لدول الخليج، التي تنأى بنفسها عن منافسات القوى الكبرى.وتتعدد مظاهر العلاقات بين دول الخليج وفرنسا، ما بين روابط اقتصادية وتجارية واستثمارية متبادلة متنامية، تُعزز الاعتماد الاقتصادي المتبادل، وتعاونٍ مثمرٍ في المجالات الأمنية والدفاعية، إلى تبادلات ثقافية وعلمية تُحيي تراثاً تليداً بين العرب والفرنسيين. ويكفي أنْ نشير، في هذا الخصوص، إلى مؤتمر «رؤية الخليج»، الذي التأم في العاصمة الفرنسية منتصف العام المنصرم، برعاية الرئيس إيمانويل ماكرون، هذا المؤتمر الذي عُدَّ أكبر فعَالية تجارية اقتصادية بين فرنسا ودول مجلس التعاون.

وبعد النجاح المثمر الذي حققته النسخة الأولى من هذا المؤتمر، ستقام نسخة هذا العام في أوائل يونيو المقبل بباريس. كما نشير أيضاً إلى دعم فرنسا لاستضافة السعودية معرض «إكسبو 2030»، على حساب إيطاليا، ما يؤكد الجهود الفرنسية لتوطيد علاقاتها مع دول الخليج. وفي مجال التعاون الأمني، ثمة تعاون بين دول مجلس التعاون وفرنسا في تدعيم أنشطة مكافحة الإرهاب، والحفاظ على استقرار وأمن منطقة الخليج، عن طريق الإسهام في تقوية القدرات الدفاعية لدول المجلس، وتبادل المعلومات، وإجراء مناورات عسكرية مشتركة. ومع ذلك، تكتسب العلاقات الثقافية بين دول الخليج وفرنسا أهمية خاصة، نظراً لجاذبية النموذج الثقافي الفرنسي، والعلاقات التاريخية بين العرب والغرب، وأهمية التبادل العلمي بين الطرفين.

وقد أخذ الحضور الثقافي الفرنسي في دول الخليج في التنامي والاتساع مؤخراً، عن طريق اكتساب اللغة الفرنسية مساحات جديدة في المنطقة، وتأسيس مؤسسات ومدارس وجامعات فرنسية فيها، وازدياد التدفق الإعلامي والثقافي الفرنسي تجاهها، وتضاعُف أعداد الطلاب والسياح الخليجيين بفرنسا. ومن هنا، جاءت مشاركة مركز تريندز للبحوث والاستشارات في معرض باريس الدولي للكتاب 2024، الأكبر والأشهر في أوروبا، وجولته البحثية في فرنسا لفتح آفاق الحوار الفكري والبحثي مع المؤسسات الفكرية والبحثية الفرانكوفونية.

وقد دشن «تريندز» خلال المعرض باكورة أعماله البحثية الفرنسية، وأطلق مؤشره العالمي حول نفوذ «جماعة الإخوان» على المستوى الدولي، ونظّم جلسة حوارية حول «الإعلام والثقافة وحدود التأثير في الحوار العربي-الغربي»، وعَقَد ندوة عن «العلاقات الأوروبية - الخليجية»، اهتمت بشكل خاص بالجوانب الثقافية لهذه العلاقات.

*باحثة - عضو مجلس شباب تريندز- مركز تريندز للبحوث والاستشارات