اتفق أتباع الملل والديانات، كلٌ في وجدانه العميق، على تأييدها والميل لنزعتها الذاتية الخاصة. لكن الاتجاه الكانطي، نسبة للفيلسوف إيمانويل كانط، قدّم قراءةً للدين من منظور عقلي، وطرح فكرة الدِّين العالمي أو ما سماه «الدين العقلي الكوني»، وطفق مروجاً بفكره الفلسفي لاتحاد الدين بين البشر، في ما يبدو سعياً لجمع الإنسانية على مشترك واحد، بدليل شجبه للنزاعات الواقعة بين البشر، والسعي للتجمع على المحبة والتوافق والتواؤم والتناغم.

ولهذا نجد كانط يضع «الأخلاق» كلبنة أساسية ومستقلة بحد ذاتها من حيث عدم حاجتها لدين يؤسسها، فهي مشبعة بإرهاصات وجودها طالما وُجد العقل، حتى وإن احتاجت إلى الحالة الشعورية بما هو أسمى (الله). كما أن العقل، يقول كانط، أساس يستحيل هز عرشه، ولذا فقد ربط كانط استمرارية الدين به، إذ لا يمكن استمرار أي دين يقوض من قيمة العقل أو يحاول أن يفرض عليه الجمود. وفي هذا الخصوص يقول: «إنّ ديناً يعلن الحرب على العقل، سيصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه».

والأخلاق بحكم الطابع الإنساني الكوسمولوجي، لا تحتاج إلى تأسيس ديني، بل هي موجودة بذاتها، وهذا ينطبق على الدين الذي لا يحتاج تمهيداً أخلاقياً حتى يكون. ولعلنا نجد مصداقاً لهذه الفحوى في أحوال الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم، فالذي تغير بعد إسلامهم هو الشعائر التعبدية بالأساس وليس الأخلاق، إذ أن هذه الأخيرة موجودة ومتسقة مع أصالة الفطرة، وقد تُممت واكتملت بالإسلام ولم تتغير.

وهذا موافق لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام حين سُئِلَ: أيُّ النّاسِ أكْرَمُ؟ فقالَ: أكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أتْقاهُمْ، قالوا: ليسَ عن هذا نَسْأَلُكَ، قالَ: فأكْرَمُ النّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ، قالوا: ليسَ عن هذا نَسْأَلُكَ، قالَ: فَعَنْ معادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ قالوا: نَعَمْ، قالَ: فَخِيارُكُمْ في الجاهِلِيَّةِ خِيارُكُمْ في الإسْلامِ إذا فقِهُوا. وعلى الرغم من قدرة الدين على تطوير الذات الإنسانية وتنمية القيم والأخلاق وتوجيه السلوك الإنساني على المدى الطويل، فإن هذا لا يأتي بمجرد نطق الشهادتين، بل هو بحاجة لجهاد نفسي وصبر وتقوى واتصال صادق بين العبد وربه.

وأخيراً، فلطالما ارتبط الدِّين بمعاني الخير، والمقاصد الطاردة لأشكال الشر والظلم أياً كانت، إذ هو صوت الإله في الأرض، والإله عدل كله وخير مطلق. وبحكم طبيعة الدين العالمي الذي يدعو له كانط، فإنه يأبى تقييد الدين ليكون مقتصراً على الدين الطقوس والشعائر والابتهالات، وربط الإنسان بعالم من الغيبيات (الميتافيزيقيات) ليصدّقها ويؤمن بها، فتحكم سطوتَها على العقل البشري وتخرجه من حيز الفعالية.

وبدلاً من ذلك يدعو كانط لتثبيت وترسيخ معنى الدين الأخلاقي المبني على عقل الإنسان وتصالحه مع ذاته، باعتباره أساساً أكثر سلامةً للحياة الإنسانية، وبالتالي فالإنسان بوعيه الأخلاقي وانعكاس ذلك على سلوكه لا ينتظر خوارق يعجز العقل عن تبريرها وتفسيرها!

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة