كنا ننصت لمحاضرة المثقف الإماراتي جمال بن حويرب، وهو يتحدث عن التاريخ بمجلس المرحوم محمد بن خلف المزروعي بحي المشرف بأبوظبي، فقد نبّه إلى أن التاريخ عبرة وحقيقة ومعرفة، وجال في خاطري ما يصيب قادة الأنظمة الديكتاتورية من مرض الغفلة وداء العناد والاستهتار بالأخطار التي يضعون أنفسهم وشعوبهم في مواجهتها دون أدنى حساب. فلا هم يستفيدون من التاريخ، ولا هم يحافظون على مصالح شعوبهم وسلامة أوطانهم. وهو ما يميز الآن العناد الإيراني في مواجهة الحصار الأميركي، فقد وضعت إيران نفسها في مواجهة الطوفان الأميركي الجارف الذي أنهى التمرد الكوري الشمالي، والصلف والانحياز الأوروبي للجانب الإيراني ضد الإرادة الأميركية، وكلها محاولات لم تجدِ نفعاً، وآلت للفشل، وإصرار ترامب على تنفيذ وعوده فقد بدأت العقوبات تضيق الخناق على إيران، ولن تنجو الدولة التي تمارس العدوان على جيرانها من مصيرها المحتوم، إلا إذا أعلنت الاستسلام والتسليم بالشروط الأميركية الـ 13 أو الأقدام على الانتحار مثل صدام حسين، ويكون انهيار النظام لا محالة.
وبالعودة إلى سريان العقوبات الأميركية، يدور الآن نقاش بين أنصار إيران المحسوبين عليها وبين العقلاء الذين يرون الأمر بمنظار الواقع والحياد. فقد نجحت إيران في زمن الغفلة العربية والأميركية من زراعة بذور شيطانية كثيرة في بقاع كثيرة من المجتمعات العربية، لاسيما المجتمعات التي تدين بالمذهب الاثنى عشري. وزادت على ذلك أن فتحت جسوراً متعددة للاتصال مع بقايا اليسار العربي بطوائفه المتعددة، حيث أقنعتهم الدعاية الإيرانية الزائفة بأنها العدو الأول للصهيونية ولأميركا، وأن بمقدور القوة الإيرانية إنزال الهزيمة الساحقة بإسرائيل وبأميركا تماماً كما كان وهم صدام حسين. للأسف الشديد، فقد صدق بعض السذّج هذا الوهم، ووجدنا الكثيرين منهم يصدحون بمقولات تنم عن جهل وسطحية، ونراهم الآن يروجون للكذب المتصاعد من طهران بمقدرة إيران على مقاومة الحصار، وتحويل التداعيات السلبية المتوقعة إلى نحور الأميركيين، وانهيار الدولار وكساد الاقتصاد الأميركي. وما علينا إلا أن ننتظر ونرى.
ما يهمنا في هذا الحصار كعرب الكثير. بداية نحن، وأعني كل العرب والخليجيين بشكل خاص، أن القوة الإيرانية التي سخر الملالي موارد الشعب الإيراني لبنائها لم تكن من أجل إنزال الهزيمة بإسرائيل، بقدر ما كانت موجهة لإضعاف المشروع النهضوي الخليجي، والانقضاض على الدول الأقرب فالأقرب، وإقناع العرب الشيعة بمقدرتها على تشييع الأغلبية السُنية بالقوة. ونذكر أن إيران منّت نفسها بتوجيه انتفاضات «الربيع العربي» لتحقيق الحلم الإمبراطوري الصفوي والسيطرة على المشاعر المقدسة في النجف. وخاب ظنهم، حين قلبت عليهم مصر أولاً ظهر المجن، وتبعتها الفزعة الخليجية في «عاصفة الحزم»، وتكوين ما أطلق عليه البعض «الناتو العربي» بأركانه القوية الأربعة السعودية والإمارات ومصر والسودان وبنائه الشامخ في العالم الإسلامي.
ولأول مرة، يخوض «الناتو العربي» الحرب المفتوحة مع إيران، وينجح في إحباط محاولة بيع اليمن لإيران. أتذكر هنا كتاباً مرجعياً فرغت من طباعته منذ أسبوعين بعنوان (سهيل يشتعل)، وسهيل هنا اسم مجازي لليمن ضمنته عنوانا فرعياً هو (اليمن وإحباط محاولة بيع وطن)، انتهيت فيه إلى نتيجة تجزم بأن الجزيرة العربية بنطاقها الشمالي المكون من دول الخليج ونطاقها الجنوبي المكون من اليمن، أعادت لحمتها، وجددت دورها في مقاومة الغزاة بعد أن تبين أن الفرس لم ينسوا هزيمتهم أمام قوة الإسلام وبطولة أبنائه الذين تقاطروا على عاصمة الإسلام المدينة، تلبية لنداء الجهاد. كانوا مسلمين عرباً أتوا من عدن وحضرموت في الجنوب إلى العراق وأرض الأنباط في الشمال، ونشروا الرسالة على ما نطلق عليه الشمال العربي الآن. واشتعال «سهيل» ما هو إلا رمز لعودة القوة لعرب الجزيرة بمكوناتها التاريخية، وبدورها اليقيني الثابت للدفاع عن تلك الحياض.
المعارك الطاحنة التي تدور الآن تجري لتحرير ما تبقى من أرض اليمن، معارك تنسجم مع احتمال انهيار قوة «الحوثيين»، وهي ليست حتى الآن أحد إفرازات المواجهة بين إيران وأميركا كما يرى البعض. و«التحالف» لم يلجأ للتصعيد، ولكنه عمد إلى إرجاء ساعة الحسم لتحرير الُحديدة تحت ضغوط دولية. فقد ساد الاعتقاد بأن حلاً سلمياً يمكن تحقيقه، وليس هناك من هم أغبى من الخبراء الذين عجزوا عن فهم العقلية «الحوثية» المعجونة بسلوكيات الزيف والخداع، وهي كما نرى تنسجم مع العقلية التآمرية الإيرانية. وجاءت ساعة الصفر، وفي غضون 24 ساعة، بدأت حصون «الحوثي» تتساقط، والهدف أن يعود اليمن لأهله الحقيقيين.
ومرة أخرى، نرى أن التاريخ يعيد نفسه، وقد قال أحد الفلاسفة إن التاريخ لا يكرر نفسه إلا في ساحات الأغبياء. والذين لا يجيدون قراءة التاريخ أو لا يقرأونه مطلقاً يقعون في شراك التكرار. فإذا أمعنا النظر في أوضاع القادة الإيرانيين، فإن المشهد يذكرنا بما حدث لصدام حسين في أيامه الأخيرة، كان ينفش ريشه كالطاووس، ويستهين بالحصار المضروب حوله، ويوهم الناس بأن نظامه قادر على مقاومة الحصار، وكانت النتيجة سقوطه وتنفيذ حكم الإعدام فيه وتدمير العراق ووضعه في أتون حرب أهلية لا تزال تستعر حتى اليوم. ومثله معمر القذافي دون الدخول في التفاصيل. والآن نحن أمام إيران، ونقول إن المراهنين على صمودها خاسرون. والمهم أن لدينا الوقت للصبر والانتظار، ومن يصمد كثيراً يضحك أخيراً.