قبل يوم واحد من زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخيرة إلى العاصمة الصربية بلجراد، أعرب عن سعادته الغامرة بتغيير اسم مقدونيا واتهم الولايات المتحدة ودول أوروبية بعينها، بمحاولة «زعزعة استقرار» المنطقة. وفي هذه الأثناء، ندّد وزير الخارجية الروسي بـ«رغبة الولايات المتحدة في قيادة دول البلقان كافة إلى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أسرع وقت ممكن، والتخلص من أي نفوذ روسي في المنطقة». وترغب روسيا في توضيح أن ذلك ليس هو ما تريده شعوب المنطقة.
وبمشاهدة زيارة بوتين إلى بلجراد والإنصات إلى تصريحاته، لا يجد المرء أمامه سوى استنتاج أن المواجهة في البلقان بين الغرب وروسيا تتغير من حيث طبيعتها وحدتها. فخلال العقد الماضي، كانت روسيا نشطة في الدفاع عن وجودها الاقتصادي والثقافي في المنطقة، لكنها لم تتحد هيمنة «الناتو» والاتحاد الأوروبي علانية أبداً. لكن ليس بعد الآن!
وللوهلة الأولى، تبدو طموحات روسيا غير واقعية، إذ أن دول البلقان لا تزال محاطة بقوة بالغرب: لاسيما اليونان وبلغاريا ورومانيا وكرواتيا وألبانيا والجبل الأسود، وجميعها أعضاء في حلف الناتو، ومقدونيا في طريقها إلى الانضمام. وجميع دول المنطقة إما أعضاء في الاتحاد الأوروبي أو تطمح إلى الانضمام. والاتحاد الأوروبي هو أكبر شريك تجاري للمنطقة وأكبر مستثمر فيها والوجهة المفضلة للهجرة. والمنطق هو أن روسيا ربما لا تكون أكثر من مؤجج للمشكلات.
لكن هذا المنطق خاطئ. فموسكو قد استشعرت ضعفاً شديداً في وضع الغرب داخل دول البلقان: ورغم أنه في دول مثل أوكرانيا يُنظر إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره رمز التغيير، إلا أنه يعتبر في دول البلقان مدافعاً عن الوضع القائم الذي يوشك على التصدع!
فشعوب هذه الدول محبطة وغاضبة، والتوترات الإثنية تتفاقم، ومعظم دول هذه المنطقة شهدت مظاهرات واسعة النطاق مناهضة للحكومة. والنمو الاقتصادي هزيل في معظم الأماكن، بينما يتفشى البؤس والسكان يهاجرون من المنطقة بأعداد كبيرة: فأكثر من 40 في المئة ممن ولدوا في البوسنة والهرسك تركوا بلادهم، وكذلك نحو 40 في المئة ممن ولدوا في ألبانيا، وزهاء 25 في المئة ممن ولدوا في مقدونيا، فعلوا الأمر ذاته.
وفي حين تُظهر استطلاعات الرأي أن أغلبية الشعوب لا تزال ترى أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي هو أفضل طريق للازدهار، إلا أن وعد التكامل الأوروبي يفقد قوته الجاذبة. ولا يعني ذلك أن مستقبل الاتحاد الأوروبي يبدو غير مؤكد فحسب، لكن قادة مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أظهروا أنهم لن ينفقوا رأسمالهم السياسي على الدفاع عن دمج دول غرب البلقان.
ومع تغير المعنويات في المنطقة، يبدو الاتحاد الأوروبي متردداً في تغيير نهجه تجاهها. ويرجع ذلك، جزئياً، إلى الجمود البيروقراطي وضعف الاهتمام السياسي. لكنه ناجم أيضاً عن الخوف من أن أي تغيير في السياسات بشأن دول البلقان سيبدو خيانة للمبادئ. وقد لعبت الحروب التي اندلعت في تسعينيات القرن الماضي في يوغوسلافيا السابقة دوراً محورياً في تشكيل الهوية السياسية للاتحاد الأوروبي بعد الحرب البادرة. واعتبر الأوروبيون أن المأساة الوشيكة ليست صراعاً بين حكومات أو دول، وإنما بين مبدأين: مبدأ القومية الإثنية، ويمثلها سلوبودان ميلوسيفيتش، ومبدأ الديمقراطية التعددية، وتتجسد في الاتحاد الأوروبي.
وبناء على ذلك، تقف الأيديولوجية وراء سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه دول البلقان أكثر من أي جزء آخر من العالم. وهذه الجسارة الأيديولوجية الأوروبية محل إعجاب، لكنها أيضاً مسؤولة جزئياً عن شلل المنطقة.
وخير مثال على ذلك هو دور الاتحاد الأوروبي في الجهود الدبلوماسية الدائرة بين الصرب وكوسوفو، ذلك أن التكتل الأوروبي هو من أطلق الحوار بين البلدين وشجعه إدراكاً منه بأن الاعتراف المتبادل بينهما هو السبيل الوحيد لإزالة العقبات أمام مزيد من التعاون الاقتصادي، ولتمهيد طريق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أمام صربيا وكوسوفو.
لكن عندما بدأ الرئيس الصربي ونظيره الكوسوفي معالجة قضية حساسة هي «تصحيح» الحدود بين بلديهما من أجل التوصل إلى اتفاق نهائي، سرعان ما أعلنت العواصم الأوروبية الكبرى أنها لن تسمح بحدوث ذلك أبداً. ولم تكن فكرة تغيير الحدود فكرة جيدة أبداً، خصوصاً بعد التجربة المأساوية في الحروب العرقية في البلقان. لكن إملاء كيفية إقامة العلاقات بين البلدين على رئيسين منتخبين لم تكن أيضاً فكرة جيدة، وعلى رغم من أن المخاوف الأوروبية في هذا الصدد مشروعة، لكنها نقلت رسالة خاطئة، وكأن الاتحاد يملي على دول جواره الابتعاد عن القضايا المهمة! وقد كان لذلك نتائج عكسية، فأضحت كلتا الدولتين بعيدتين عن التوصل إلى اتفاق أكثر مما كانتا عليه قبل أشهر مضت.
وهنا، بدأت روسيا تتدخل، فالتقى بوتين الرئيس الكوسوفي، على رغم من أن موسكو لا تعترف ببلاده كدولة. وأشار اللقاء إلى أن روسيا لا ترى دورها في دول البلقان كحام فقط لصربيا، وإنما كوسيط محتمل. ولهذا لا ينبغي أن يندهش الأوروبيون إذا ما أصدرت روسيا خريطة الطريق الخاصة بها من أجل تطبيع العلاقات الصربية الألبانية.
وبعبارة أخرى، ترغب روسيا أن تحل محل الاتحاد الأوروبي كوسيط لحل الصراعات الإقليمية، كما تحاول أن تفعل مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
رئيس مركز الاستراتيجيات الليبرالية وباحث دائم لدى معهد العلوم الإنسانية في فيينا
يُنشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»
Canonical URL: https://www.nytimes.com/2019/01/28/opinion/russia-eu-balkans.html