من السهل أن تجد من تغزل بالنساء، أو بالقمر، أو السهر... لكنك لن تجد أحداً تغزل بالمكتبة، مثل بورخيس، الأديب والشاعر الأرجنتيني(1899-1986).
يتحدث عنها، جسدها، شكلها، ضوؤها، وكأنه يتحدث عن عشيقة فاتنة الجمال، فاز بها دون آلاف العشاق. يتدفق عشقاً، وهو يروي مغامراته داخل مكتبته. بل إنه تمنى مكتبةً حتى في الجنة!
القراءة بالنسبة إليه فرصة مواتية للمتعة، أكثر من كونها مصدر معلومة.
يقول بورخيس: «أظنّ أن إمرسون (فيلسوف وشاعر أميركي (1803-1882)، هو من كتب في مكانٍ ما: إن أي مكتبةٍ هي نوع من المغارة السحرية، الممتلئة بالموتى، ويمكن لهؤلاء الموتى أن ينبعثوا أحياء، يمكن لهم أن يعودوا إلى الحياة عندما نفتح صفحاتهم».
القراءة جسّ وبحث وتعمق في المجهول، وهي بهذا تشبه مشاعر الحب الأولى، إذ تغدو مثل راحلٍ إلى جزيرةٍ جميلة، مع كل خطوٍ يكتشف المزيد من الجمال اللا منتهي. لذلك فالقراءة ممارسة ممتعة في حد ذاتها، والمعلومة بالنسبة لعشاق القراءة على أهميتها، فإنها ليست المقصد الأول، وإنما تأتي منزلة تابعةٍ، لإدمان متعة المطالعة، وهي سمة بين محترفي فن القراءة، على مر العصور.
يتحدث بورخيس عن الفيلسوف البريطاني، بيركلي (1685– 1753):«أتذكر أنه كتب يقول، إن طعم التفاحة ليس في التفاحة نفسها، فالتفاحة بذاتها لا طعم لها، وليس في فم من يأكلها، وإنما هو في التواصل بين الاثنين، والشيء نفسه يحدث مع كتابٍ أو مجموعةٍ من الكتب».
اقتناء الكتاب من دون الاطلاع عليه، أو الغوص في أعماقه، أو الغرق في متاهات نصوصه، وغرائب حكاياته، وتعقيدات شخوصه، والخوض في تفاصيله، لا يجعلك تصل إلى الممارسة الممتعة للقراءة.
القراءة، مثلها مثل أي نشاطٍ أو مهارة، كالرياضة، شرطها اللياقة. وكل نشاط تتقنه حين تبتعد عنه، تهبط قدرتك على ممارسته باحتراف، والتعاطي معه بمتعة، وتصبح أقل حظاً في إدراك المعاني، والإمساك بخيوط المقاصد، والوقوف على مكامن المفاتن، وملامح الجمال.
اقتناء الكتاب محمدة مطلقة، ففائدتها ممتدة، للبيت، ساكنيه، وزواره... امتداداً لأجيال ممتدة.
الكتاب مفتاح السعادة والبهجة، وميدان الترويح عن النفس، ووسيلة السفر من الواقع إلى أزمانٍ وحقبٍ سالفة، لا توصلك إليها أي وسيلة أخرى.
القراءة بكل أشكالها مفيدة، قراءة بعض كتابٍ أو نصفه، من أوله أو من أوسطه، تصفح فهرس، أو قراءة مقدمة، البدء بعدد من الكتب دفعةً واحدة، أو التنقل بينها قبل إكمالها، العودة لكتابٍ هُجر من سنين دون أن يقرأ كله، أو القراءة التقليدية لكتابٍ واحدٍ يتلوه الآخر.
فوائد القراءة، تراكمية، لا تدرك في يومٍ وليلة، فهي مثل تناول ثمرة لذيذة، قطفت، بعد أن استوت، ونمت، ولم تكن قبل زمن إلا بذرة زرعت في أرض خصبة.
الإقبال على القراءة بلهفة، هي الأرض الخصبة، والكتاب هو الشجرة، ومتعة القراءة، وتحصيل المعلومة، هي الثمرة اليانعة الطيبة.
القراءة أجمل طريقة لبناء العقل، وتطوير الفكر، وفتح آفاق الذهن، ولذلك فعجيب قول بعضهم:«كلما أنهيت الكتاب، شعرت أنني نسيت ما فيه».
من قرأ ليحفظ، أشبه بتلميذ يدرس ليحصل على شهادة، لا ليتعلم، ما قرأته ونسيته سينعكس على طريقة تفكيرك أو سلوكك، وإن لم تستظهر نصه حينها!
لم تعد الفكرة التقليدية، التي تعتبر القراءة تسبب الضرر، أو أن كثرتها، طريق للعته، في يومنا هذا مبررة مطلقاً، يحدثنا بورخيس:«هناك عبارة لأحد آباء الكنسية، قال: (إن وضع كتابٍ في يد الجاهل، لا يقل خطراً عن وضع سيفٍ في يد طفلٍ)، وهكذا فإن الكتب في نظر القدماء كانت مجرد أدوات، وفي واحدةٍ من رسائله الكثيرة، كتب سينيكا ضد المكتبات الكبيرة، وبعد زمنٍ طويل من ذلك، كتب شبنهاور يقول إن كثيرين يخلطون بين شراء كتاب ومضمون الكتاب، وعندما أنظر إلى الكتب الكثيرة التي لديّ في البيت أشعر بأنني سأموت قبل أن أنهيها، ولكنني لا أستطيع مقاومة الإغراء بشراء كتبٍ جديدة».
الكتبي الأرجنتيني الجميل، مثال لعاشق متيم، كان وصلُ الحبيبة سبباً في زيادة العشق. مرت الأيام، ولم يذبل الهيام، بل زادت اللهفة، وتضاعف طعم اللقاء!