قبل خمسة عشر عاماً، وتحديداً في شهر رمضان، شهدت بنفسي، حزن الناس، من كل الجنسيات في الإمارات، على رحيل رجل عظيم، أسس دولة، على أسس متينة، وبنى إنساناً، كما يليق بناء البشر، وكانت محبة الناس له صادقة، وفي الحديث: أنتم شهود الله في أرضه.
 كان حزن الناس على وفاة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، صادقاً لا مراء فيه.
لأحدثكم عن وطني، المملكة العربية السعودية، لا أحسب أن أحداً يمر عليه ذكر زايد، غفر الله له، دون أن يعلن دون مواربة، تقديره لشخصيته، ومحبته لرجل صدق في محبة الناس، فبادلوه صدقه صدقاً، في التقدير والإجلال والمحبة.
في الحادي عشر من فبراير 2019، كان الأمير تركي الفيصل، السفير السعودي السابق، بلندن، فواشنطن، يحاضر في وزارة الخارجية الإماراتية بأبوظبي، فنقل الأمير أن الشيخ زايد، كان في آخر أيام حياته، في اللقاءات التي جمعتهما، يوصي أبناءه من بعده، بتوثيق العلاقات مع السعودية، قائلاً، بنص حديث الأمير: «السعودية هي عزوتكم إذا جار الزمن». كان وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية الدكتور أنور قرقاش، حاضراً المحاضرة، فعلق في تويتر على نقل الأمير عن الراحل الكبير: «هي قناعات راسخة، تتجدد، وتتعزز».
الحقيقة أن السعوديين يحبون الشيخ زايد، قبل أن يسمعوا بكلمته هذه، ومن سمعها، علم أنه أحسن الظن برجل عظيم، وازدادت قناعته بمشاعره.
كان رحمه الله، إنساناً، مؤمناً بالإنسانية، دون أن يربط هذه الأنسنة، بإثنية، أو جغرافية، أو أيديولوجية، مع اعتزازه الشديد، بعروبته وإسلامه، فقد كان رحمه الله، واعياً لأن الإيمان بالإنسانية، لا يعني عدم الانتماء، أو ألا يعتز المرء بهويته وجذوره.
يقول السيد علي الهاشمي، مستشار الشؤون الدينية والثقافية بوزارة شؤون الرئاسة بالإمارات: «إن الشيخ زايد كان يحب العفو، ويكره الحقد، ويدعو الناس إلى أن يكونوا صادقين ومتحابين ومتوادين، ويؤكد أن الشريعة الإسلامية الغراء، شريعة هداية وعدل وتسامح ومحبة ويسر، وكان محباً للقرآن الكريم، ومن أشهر الآيات التي كان يرددها قول الله تعالى «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى? وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا - إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ - إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».
والآية الكريمة، تشير إلى الاختلاف البشري، الذي يجب أن يُسخر باتجاه كونه خلاف تنوع، لا خلاف تضاد، فهو يعزو الاختلاف بين الذكر والأنثى، وتعدد الشعوب والقبائل، لمهمة على الإنسان أن يتخذها منهجاً، وهي التعارف، وهو خلق يدل على التآلف والانفتاح على الآخر، لا التباغض والتباعد.
حدثني الأستاذ إبراهيم العابد، وكان مدير وكالة الأنباء الإماراتية حينها، أن BBC أتوا لمقابلة الشيخ زايد، في منتصف التسعينات، فذهبوا إليه، حيث كان جالساً تحت شجرة في غنتوت، وضمن المقابلة سألوه عن تأسيس الإمارات، فقال لهم إني سألت بدوياً من أهلنا، قبل قيام الاتحاد: ما رأيك في أن أقيم دولة فيها شرطة وجيش وقانون، وتخدم الناس، وتحفظ الحقوق؟! فأجاب البدوي: يحدث هذا إذا مشت الناقة على ظهرها!
يقول الشيخ زايد: بعد التأسيس، سألت نفس البدوي: ما رأيك؟ فرد: لقد مشت الناقة على ظهرها فعلاً!
رحل زايد، رحمه الله، بجسده، لكن أفكاره باقيه، وبذره أينع، وأنبت نباتاً حسناً، يسر الناظرين.
كان زايد حريصاً على ربط النشء والجيل الشاب، بماضيه، وتاريخه، لكنه كان منفتحاً على التغيير، ومواكبة العصر، تقول عنه رفيقة دربه وزوجته، الشيخة فاطمة بنت مبارك: «لقد وقف منذ اليوم الأول لتولي سموه مسؤولية الحكم، مناصرًا للتغيير الاجتماعي في البلاد تماشياً مع روح العصر».
ووفقاً لهذه الموائمة بين التحديث ومواكبة الجديد، والتمسك بالأصالة والاعتزاز بالتراث، نشأت شخصية صنعها زايد بامتياز، لا هي منسلخة من جذورها، ولا هي منغلقة على نفسها، بل هي شخصية متوازنة، وفي الاعتدال والتوازن، يكمن العقل، والوسطية، وهما عنصران، كلما ابتعدت عنهما حضارة عبر التاريخ، كان الزوال إليها أقرب، وأوان أفولها قد حان، أو أوشك.
رحم الله زايداً، فلقد كان له من اسمه النصيب الأوفر.
*سفير المملكة في الإمارات