يقول سمير عطا الله: «أكتب في الصباح، وثلاثة أرباع نهاري للقراءة»، لذا أثمرت غزارة قراءاته عن نصه الخاص، متميز الحرف، رشيق العبارة، ما جعل الصحافيين، يقرأون زاويته بعين مهنتهم، والأدباء يرونه من رموزهم، وهو لعمري تنافس قل من يحوزه.
هو لا يعتبر احترافه الصحافة، مانعاً من الكتابة الأدبية، وما زاويته اليومية في «الشرق الأوسط»، إلا علامة على ذلك.
منذ 1987 قرر سمير أن يكتب نصاً، يشبه ثقافته حد التطابق، فأشبع كل الأذواق، لأن ثقافته موسوعية، فله في كل عرس قرص، مقتطفاً من كل بستان زهرة.
بين الرحلات، والفنون، والأفكار، والتحليل السياسي، برزت ثمرة قراءات عطا الله، التي جعلت كتاباته، غزيرة المعاني، شيقة القصص، ثرية الأفكار.
إن مروراً عابراً على الشخصيات المؤثرة في صناعة الثقافة العربية، مثل، المتنبي، والمعري، وأبو تمام، والجاحظ، وأبو حيان التوحيدي، تدلك على أن قراءتهم الغزيرة، كانت سبباً رئيساً لغزارة معاني نصوصهم، وجمال أسلوب كتاباتهم.
بدا هذا واضحاً في ما كتبه المعري، مثلاً، في شرحه ديوان أبي الطيب، المعنون بـ: «معجز أحمد»، وكذا ما سطّره القاضي الجرجاني في كتابه: «الوساطة بين المتنبي وخصومه».
أما الجاحظ، فتأمل سبب وفاته، يقنعك بتعلقه بالقراءة والمطالعة، إذ أنه مات إثر سقوط مكتبته عليه!.
وكتبه تشرح موسوعيته، فخاض وتشعب في شتى الفنون، متناولاً كل فن بعقلٍ متميز نادر، وفي رسالته إلى محمد بن عبدالملك بعنوان: «في الجد والهزل»، تحدث عن كتابته وأوراقه، مستنكراً ومهاجماً الكتابة بالجلود، ثم يستنكر على ناقديه: «وما عليك أن تكون كتبي كلها من الورق الصيني، ومن الكاغد الخراساني... وأنت تعلم أن الجلود جافية الحجم ثقيلة الوزن، إن أصابها الماء بطلت، وإن كان يوم لثق استرخت، ولو لم يكن فيها إلا أنها تبغض إلى أربابها نزول الغيث، وتكرّه إلى مالكيها الحيا، لكان في ذلك ما كفى، ومنع منها... ولو أراد صاحب علم أن يحمل منها قدر ما يكفيه في سفره لما كفاه حمل بعير».
القراءات الغزيرة، تفسح الطريق لكتابة استثنائية مختلفة، ومع السنين، تتحول الكتابة إلى طقسٍ يومي، مثله كتنفس الهواء.
الأمر يبدو كحنفية في بيتك غزيرة الانهمار، أما إذا كان خزان المياه في المنزل ممتلئاً، أما إذا شح ماء الخزان، بخلت الحنفية بالتدفق.
العلامة السعودي، الموسوعي التسعيني، محمد بن ناصر العبودي، يكتب يومياً أكثر من أربع ساعات، وعلاوةً على تقديمه للمكتبة العربية، مائتي كتاب، في الأدب، والتاريخ، والسير والرحلات، دوّن ثلاثين معجماً، وله معاجم وكتب مخطوطة أخرى كثيرة، وله معاجم عن النخيل، والأمثال العامية، والإبل، والأسر، والجغرافيا، وسواها.
لا شيء يحزن الكاتب مثل عجزه عن الكتابة.
إيمان معروف، ترجمت عن أغاثا كريستي، عاداتها في الكتابة، وتنقل عنها: «في سنواتها الأخيرة، وبعد أن أصيب معصمها بالتهاب شديد نتيجة غزارة الكتابة، اعتمدت أغاثا على آلة الإملاء الصوتي، «الدكتافون»، ماركة «غرونديج ميموريت»، وقد عبرت عن تجربتها تلك بالقول: «من الغريب أن يجعلك سماع صوتك واعياً لذاتك وغير قادرٍ على التعبير عن نفسك في آنٍ معاً».
تضيف: «اكتشف حفيدها ماثيو برايسارد، بعد وفاتها بفترة طويلة، وجود أكثر من عشرين شريطاً مسجلاً قديماً في صندوق من الورق المقوى. وتبين لاحقاً أن هذه الأشرطة هي المادة التي استندت إليها لكتابة سيرتها الذاتية».
الشباب المقبل على الكتابة بإيجابية مبهجة، يجدر به أن يحتفل بسِيَر من سبقوه، وأن يعتبر الكتابة لا يمكن أن تسبق سني القراءة، فقصائد المتنبي الخالدة، لم تكن لتبلغ هذه الروعة، لولا قراءات المتنبي الغزيرة في شبابه، لما بين يديه من آداب الشعوب، واطلاعه على الفلسفات وعادات المجتمعات، وآلاف الأبيات والقصائد.
من دون قراءة عميقة متشعبة، لن نحظى بكتابة فريدة متقنة، تشهد على ذلك تجارب العباقرة الذين يشدوننا نحو إنتاجهم.
وبالعودة إلى سمير عطا الله، فالصحافة لديه ليست مهنة المتاعب، وإنما مهنة العطاء.
ومثل ذلك الكتابة عموماً، إنها منة العطاء السخي، ومن دون قراءة مكثفة، تصبح الكتابة جرداء، فقنديل الكتابة... القراءة.