ربما تكون الهند من أسرع اقتصاديات العالم نمواً، لكنها رغم هذا تواجه بعضاً من المشكلات الأساسية. وفي جملة مجموعة من المشكلات، تعد أزمة قلة المياه واحدة من أسوأ المشكلات التي تواجهها البلاد.
وظهرت مشكلة المياه هذه في واجهة الأحداث، حين وجدت مدينة «تشينائي» عاصمة ولاية «تاميل نادو» في جنوب الهند نفسها في غمرة أزمة مياه حادة. و«تشينائي» من المدن الأكثر ثراءً في الهند، وتشتهر بأنها «ديترويت» آسيا، لأن ثلث إنتاج البلاد من السيارات يجري إنتاجه في هذه المدينة. وهي مركز نشط أيضاً لتكنولوجيا المعلومات، وبها مقر مئات من شركات تكنولوجيا المعلومات صغيرة ومتوسطة الحجم. وتزخر المدينة بعدد من البحيرات وثلاثة أنهار على الأقل تمر بها. لكن هذه المدينة الهندية الجنوبية توشك أن تقع في أزمة مياه حادة، بسبب سوء إدارة المياه. والفشل في حفظ المياه تمثل في الانخفاض من 830 مليون لتر من المياه في اليوم، إلى 525 مليون لتر في اليوم منذ بداية هذا الشه،ر بسبب ثالث جفاف على التوالي تشهده الولاية.
وبعد ثلاث نوبات جفاف متوالية، أصبحت المياه سلعة نادرة في المدينة. وأصبح عامة الناس يضطرون للوقوف في صفوف طويلة كي يحصلوا على المياه من الناقلات الحكومية. والأغنياء الذين تمكنهم مواردهم من الحصول على المياه من ناقلات خاصة يدفعون مبالغ طائلة تتراوح بين ثلاثة وسبعة آلاف روبية، مقابل 12 ألف لتر من المياه. والوضع سيئ للغاية، لدرجة أن زعماء الحزب الحاكم نظموا اجتماعات وشعائر دينية للاستسقاء لتخفيف حدة الحالة.
وما يحدث في هذه الولايات الهندية الجنوبية ليس حاله مفردة ولا منفصلة. فعلى امتداد الهند، وخاصة في المراكز الحضرية، هناك طلب كبير على المياه وكثير من المدن على أعتاب الدخول في أزمة من المرجح أن تتفاقم. وكثير من المدن تئن تحت وطأة تزايد عدد السكان، مما يزيد من الطلب على موارد المياه ليتجاوز المتاح منها. وعلى امتداد المدن، تجري أنشطة الإنشاءات بالقرب من البحيرات ومجاري الأنهار، ويصحب هذا طلب هائل على المياه في القطاعات الصناعية والتجارية والسكانية.
ولدى الهند 4% من المياه الجارية في العالم، لكن يقطنها 17.5% من سكان العالم. ومواردها من المياه تتعرض لضغوط بالفعل، بسبب استخدامها في الزراعة وفي عملية تمدد الحضر المتنامية والنمو الصناعي. ومستويات المياه الجوفية تنخفض، لأن ثلثي حاجات الري في الهند، و80% من المياه المحلية تعتمد على موارد المياه الجوفية. و50% فقط من الحقول تتمتع بنظام للري.
والهند تعتمد بشدة على الأمطار السنوية، التي تأتي بها الرياح الموسمية التي تعبر الساحل الجنوبي للهند، بدءاً من ولاية كيرالا في وقت مبكر من يونيو تقريباً ثم تتحرك إلى الشمال. والأمطار تغذي المياه الجوفية وتملأ خزانات المياه وتغذي الأنهار، وهو ما يحدث في مناطق واسعة من الهند، رغم ارتفاع درجات الحرارة إلى أكثر من 44 درجة مئوية.
وتشير بيانات «مؤشر إدارة المياه»، الصادرة عن لجنة تخطيط السياسة عام 2018 إلى أن 21 مدينة كبيرة، من بينها دلهي وبنجالور تشينائي وحيدرأباد وغيرها، سيصل مستوى المياه الجوفية فيها إلى صفر بحلول عام 2020، مما سيؤثر على إمكانية الحصول على المياه لأكثر من 100 مليون شخص. وتشير بيانات المؤشر إلى أنه من المتوقع أن يصبح الطلب على المياه في البلاد ضعف المتاح منها بحلول 2030، مما يعني ندرة حادة في المياه سيعاني منها مئات الملايين من الشعب. وهذا سيتسبب في خسارة سنوية محتملة في الإنتاج المحلي الإجمالي للبلاد، تبلغ في نهاية المطاف 6%. وأنشأت الحكومة الاتحادية في الآونة الأخيرة إدارة جديدة للمياه، تستهدف معالجة القضايا المتعلقة بهذا الموضوع، كونه بات مشكلة متنامية تعاني منها البلاد.
والمناطق المنزعة بمعظم المحاصيل الصيفية، مثل الأرز وبعض البقوليات والقطن وبذور إنتاج الزيوت، التي تمثل نصف إنتاج الهند سنوياً من الغذاء تراجعت عن مستوى العام الماضي. وإجمالي المساحات المنزرعة بهذه المحاصيل حتى الآن، أقل أيضاً عن متوسط المساحات التي زُرعت بهذه المحاصيل في السنوات الخمس الماضية. وهذا يصنع أجواءً تشبه الجفاف في ولايات كثيرة. فالمزارعون ليس لديهم الثقة الكافية كي تجعلهم يقدمون على العمليات الزراعية ما لم تتحسن الأمطار. والمزراعون لم يزرعوا من الأرز، الذي يمثل المحصول الأساسي في الصيف إلا في نحو 0.630 مليون هكتار، مقارنةً مع المساحة التي بلغت 0.924 مليون هكتار العام الماضي، أي بتراجع بلغ 31%. والمنطقة المنزرعة بقوليات، وهي محاصيل محورية في ولايات مثل مهاراشترا واندرا براديش وكارناتاكا وولايات أخرى غيرها، بلغت مساحتها 0.170 مليون هكتار، أي أقل بنسبة 49% عن مستويات العام السابق.
ولا يسارونا إلا القليل من الشك في أن إدارة المياه بحاجة إلى المزيد من الجهود المنسقة بين الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات. وما يحدث في الهند هو أن أنشطة الإنشاءات في المناطق الحضرية بالقرب من البحيرات الطبيعية وبرك المياه ومجاري الأنهار تتوسع، مما يؤدي إلى جفاف مصادر المياه الطبيعية ويقود إلى عواقب كارثية.
*رئيس مركز الدراسات الإسلامية - نيودلهي