نجحت الصين مؤخراً في تحقيق إنجاز صحي هائل، وربما غير مسبوق بالمرة. تمثل هذا الإنجاز في عدم تسجيل حالة إصابة واحدة بمرض الملاريا منذ أغسطس 2016، بعد أن كان هذا المرض يلقي بعبئه الثقيل على عاتق أجيال تلو أخرى. ففي وقت ليس بالبعيد، وبالتحديد حتى أربعينيات القرن الماضي، كانت الصين تسجل أكثر من 30 مليون حالة إصابة سنوياً، ليلقى منهم 300 ألف حالة حتفهم، عاماً تلو الآخر. والآن، وبعد مرور بضعة عقود، لم تصبح الصين تسجل حالة وفاة واحدة، أو حتى حالة إصابة واحدة، أي من 30 مليون سنويا إلى صفر إصابات حالياً.
وتمكنت الصين من تحقيق هذا النجاح المذهل، بداية بإنشاء البرنامج الوطني لمكافحة الملاريا عام 1955، والذي مكّن المجتمعات القاطنة لهذا البلد الشاسع من العمل والتضافر سوياً لتطوير نظم الري، وتجفيف أماكن تكاثر البعوض، واستخدام المبيدات الحشرية، والنوم تحت الناموسيات الواقية من لدغات البعوض، وبالتزامن مع استجابة سريعة وفعالة من السلطات الصحية المحلية لاحتواء أية وباء قد يظهر هنا أو هناك.
وحاليا يعتبر هذا النجاح الصيني، مثالاً يحتذى به في الجهود الرامية للقضاء التام على هذا المرض اللعين، والساعية لبلوغ عالم خال من الملاريا، ضمن المبادرة المعروفة بـ (E-2020). وهي المبادرة التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية عام 2016، وتم من خلالها تحديد 21 دولة، تتوافق ظروفهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع تحقيق هدف القضاء التام على الملاريا بين أفراد شعوبهم، وفي جميع أرجاء بلادهم، وبمساعدة ودعم أفراد المجتمع الدولي، من خلال البرامج والهيئات والمنظمات العاملة في هذا المجال.
وليس من المبالغة في شيء النظر إلى طفيل الملاريا على أنه إحدى القوى الرئيسية التي لعبت دورا مهما في تحديد مسار التاريخ البشري في العديد من مراحله، حيث تظهر الدراسات الأثرية، أن طفيل الملاريا قد ظل يصيب أفراد الجنس البشري على مدار أكثر من 50 ألف عام، وهو ما يعني أن هذا الطفيلي ظل يتغذى فعليا على دماء البشر منذ اليوم الأول الذي وطئت فيه أقدامهم سطح هذا الكوكب. وحتى يومنا هذا، لا زال طفيلي الملاريا أيضا من أهم القوى المؤثرة في مقدرات البشر في العديد من مناطق العالم، حيث تصنف الملاريا ضمن أكثر الأمراض المعدية فتكا بالبشر على الإطلاق، وخصوصا بين الأطفال، حسب التقديرات التي تشير إلى وفاة طفل بالملاريا كل 30 ثانية. وبخلاف هذا الثمن الإنساني الفادح، يتسبب طفيلي الملاريا أيضا في خفض الناتج الاقتصادي الإجمالي للدول المستوطن فيها المرض.
ويمكن إدراك أهمية مرض الملاريا من منظور الصحة الدولية، من الإحصائيات والبيانات التي تظهر أن في عام 2017 فقط، لقي 435 ألف شخص حتفهم بسبب الملاريا، في الوقت الذي أصاب فيه المرض حوالي 219 مليون شخص، على الرغم من توفير أكثر من ثلاثة مليار دولار لجهود مكافحة وعلاج طفيلي الملاريا حول العالم. وإنْ كانت هذه الأرقام على ضخامتها، تشكل تحسناً ملحوظا مقارنة بما كان عليه الوضع قبل سنوات قليلة، فمنذ عام 2010 انخفضت معدلات الإصابة بنسبة 21 في المئة، ومعدلات الوفيات بـ29 في المئة.
إلا أن هذا النجاح في خفض معدلات الإصابات والوفيات، ضمن سلسلة من الإنجازات غير مسبوقة على صعيد التحكم في مرض الملاريا ومقاومته، توقفت عجلته مؤخرا، وغاص في وحل ضعف التمويل، ونقص المصادر المالية. ومما زاد الموقف تعقيداً، ظهور أنواع من الطفيلي مقاومة للأدوية والعقاقير المستخدمة في العلاج. حيث يحذر العلماء من أن الانتشار السريع والملحوظ لأحد أنواع الطفيلي المسبب للمرض، والذي أطلقوا عليه اسم «سوبر ملاريا» بسبب مقاومته لعدد من العقاقير الرئيسية المستخدمة في العلاج، قد يتسبب في كارثة صحية عالمية بكل المقاييس.
ومن الضروري التأكيد على أهمية الاستثمار والمشاركة من قبل القطاع الخاص والمنظمات الدولية، إذا كان للمجتمع الدولي أن ينجح في تنفيذ العديد من استراتيجيات المكافحة، مثل التوزيع واسع المدى للناموسيات المعالجة بمضادات الحشرات طويلة المفعول، أو تطوير فحوصات تشخيصية دقيقة وسريعة، أو تطوير أساليب علاجية معتمدة على عدد من العقاقير في آن واحد. فمن خلال هذه الإجراءات والتدابير، وتطبيقها وتفعيلها في مناطق العالم التي ترزح تحت العبء الأكبر لطفيلي الملاريا، يمكن إنقاذ حياة مئات الآلاف من الناس، تماما كما تمكن المجتمع الدولي خلال السنوات والعقود الماضية في تحقيق خفض ملحوظ في معدلات الإصابات والوفيات السنوية.
*كاتب متخصص في الشؤون العلمية