تتزايد الآمال في إمكانية القضاء على سرطان عنق الرحم في المستقبل القريب، بناءً على دراسة مقارنة، نشرت في العدد الأخير من إحدى الدوريات الطبية المرموقة (The Lancet)، قام من خلالها العلماء بتحليل نتائج 65 دراسة سابقة، اشتملت على بيانات 60 مليون امرأة حول العالم. وأظهر هذا التحليل تراجعاً في معدلات التغيرات الباثولوجية في الأنسجة والتي تسبق الإصابة بالسرطان، وأيضاً في معدلات العدوى بفيروس الثآليل الجنسية، المرتبط ارتباطاً وثيقاً باحتمالات الإصابة بسرطان عنق الرحم. ويرى العلماء أنه إذا ما استمر هذا الاتجاه، فستشهد مجمل معدلات الإصابة انخفاضاً ملحوظاً، وربما القضاء على سرطان عنق الرحم بشكل نهائي.
ويحتل حالياً سرطان عنق الرحم المرتبة الثانية على قائمة أكثر الأمراض الخبيثة فتكاً بالنساء، ولا يسبقه على تلك القائمة إلا سرطان الثدي. حيث تشير الإحصائيات الدولية إلى أن سرطان عنق الرحم مسؤول عن وفاة قرابة الثلاثمائة ألف امرأة سنوياً، من بين 570 ألف حالة إصابة، حسب إحصائيات عام 2018. وينتشر سرطان عنق الرحم إلى حد كبير بين النساء الغربيات بالذات، حيث يزيد مثلاً عدد الحالات في بريطانيا على ثلاثة آلاف حالة سنوياً. بينما تقدر الجمعية الأميركية للسرطان، أن أكثر من عشرة آلاف امرأة في الولايات المتحدة يصبن بسرطان عنق الرحم سنوياً، يلقى قرابة الأربعة آلاف منهن حتفهن بسبب المرض. لكن على الرغم من هذا، نجد أن معظم الوفيات الناتجة عن سرطان عنق الرحم، تحدث بين نساء دول العالم الثالث والدول الفقيرة. ويعود تفسير هذه المفارقة إلى أن نساء العالم الغربي، رغم انتشار المرض بينهن بمعدلات أكبر، تتوفر لهن وسائل الكشف المبكر عن المرض، من خلال الفحص الدوري بمسحة عنق الرحم، وهو ما يزيد فرصتهن في النجاة.
وبخلاف الانتشار الواسع لسرطان عنق الرحم، وفتكه بمئات الآلاف من النساء سنوياً، يظل سرطان عنق الرحم في حقيقته مرضاً جنسياً. وبشكل أدق، يمكن أن نقول: إن سرطان عنق الرحم في معظم الحالات، ينتج من جراء العدوى بواحد من فيروسات الأمراض الجنسية، هو فيروس الثآليل الجنسية. وتبدأ قصة هذه العلاقة مع بدايات القرن العشرين، عندما نجح علماء الإحصاء الطبي في تسجيل أربع ملاحظات غريبة، تتعلق بصفات انتشار سرطان عنق الرحم بين النساء. أولاها: انتشاره بين بنات الهوى بنسبة أكبر من انتشاره بين بقية النساء. ثانياً: ندرته بين الراهبات، وخصوصاً العذارى منهن. وثالثاً: ارتفاع نسبته بين الزوجة الثانية لرجال توفيت زوجاتهم الأوليات بسبب المرض. ورابعاً: ندرته بين زوجات الرجال الذين خضعوا للختان، كما هو الحال بين رجال المسلمين واليهود.
هذه الملاحظات أدت بالعلماء إلى استنتاج وجود نوع من العدوى بمرض جنسي، يقف خلف الإصابة بسرطان عنق الرحم، كنتيجة حتمية للإباحية الجنسية وتعدد الشركاء. واستنتج العلماء أيضاً أن انتشار هذه العدوى، مرتبط إلى حد ما بعدم ختان الرجل. وخلال عقد السبعينيات تمكن العلماء من التعرف على الفيروس المتسبب في هذا المرض الجنسي، وهو «فيروس الثآليل البشرية»، والمعروف اختصاراً بـ(HPV)، الذي أصبح المتهم الرئيسي في 90% من حالات الإصابة بسرطان عنق الرحم.
ولذا، اعتمدت استراتيجية الوقاية من سرطان عنق الرحم على تحقيق الوقاية أصلاً من الإصابة بالفيروس، من خلال التطعيمات. وبالفعل نجحت التطعيمات ضد فيروس الثآليل الجنسية منذ ظهور أول أنواعها عام 2006، في إحداث خفض واضح في معدلات الإصابة بالفيروس، وبالتالي في معدلات الإصابة بسرطان عنق الرحم، وهو ما أكدته الدراسة التحليلية سابقة الذكر. فبين الفتيات من عمر 15 إلى 19 عاماً، انخفضت معدلات العدوى بالفيروس بنسبة 83 في المئة، ومعدلات التغيرات الخلوية السابقة لوقوع السرطان بنسبة 51 في المئة. وبين النساء من عمر 20 إلى 24 عاماً، انخفضت معدلات العدوى بالفيروس بنسبة 66 في المئة، كما انخفضت التغيرات الخلوية بنسبة 31 في المئة.
ويتضح من هذه الأرقام والنسب، السبب خلف تزايد الآمال مؤخراً في أن يتمكن الجنس البشري من القضاء على سرطان عنق الرحم في المستقبل القريب، أو على الأقل الحالات التي تنتج من العدوى بفيروس الثآليل الجنسية. وإن كان الجدير بالذكر هنا، أن التطعيمات المتاحة حالياً، لا تحمي ضد جميع أنواع الفيروس، ولذا يظل واجباً على النساء الخضوع للفحص المعروف بمسحة عنق الرحم، بشكل دوري، وحسب توصية طبيبهن الخاص.
*كاتب متخصص في القضايا الصحية والعلمية