عندما أعلنت إيران، يوم الأحد الماضي، أنها ستقوم قريباً بزيادة مستويات تخصيب اليورانيوم، منتهكةً شروط اتفاقها النووي لعام 2015، وربما تؤذن بفشله، أوضحت طهران أن الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق لم تلتزم بما تعهدت به في الاتفاق: فقد فشلت في تحقيق الفوائد الاقتصادية التي تعهدت بها.
أوروبا تمسكت بالاتفاق النووي. حتى عندما انسحبت واشنطن، قامت الشركات الأوروبية بسحب استثماراتها من إيران. وتحت تهديد العقوبات الأميركية الثانوية، كان عليها الاختيار بين ممارسة الأعمال التجارية في إيران أو في أميركا. ولم يكن بوسع أوروبا القيام بشيء حيال ذلك. وبينما يضع الأصدقاء القدامى، مثل الولايات المتحدة، مصالحهم أولاً، ويجوب الخصوم الجدد، مثل الصين، الساحة العالمية بثقة متزايدة في النفس، هل يمكن لأوروبا أن تواجه مثل هذه التحديات غير المألوفة وتحافظ على دورها كقوة عالمية؟
أجاب تقرير جديد بنعم –إذا تحرك الاتحاد الأوروبي بسرعة. وقال المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية إن الكتلة «تمتلك القوة السوقية، والإنفاق الدفاعي والثقل الدبلوماسي لوضع حد لضعفها. ولكن ما لم تتصرف بسرعة، ربما لا تصبح أوروبا لاعباً في النظام العالمي الجديد، بل رقعة شطرنج تتنافس عليها القوى العظمى من أجل القوة والمجد».
في عدة مجالات، يعد الاتحاد الأوروبي قوة عالمية عليا. فهو أكبر كتلة تجارية في العالم، وهو القوة المانحة الأكثر سخاء للمساعدات الإنسانية، والقوة الدافعة وراء العمل المناخي، والمؤشر للمعايير التنظيمية الدولية.
يقول «أندرو مورافيسك»، رئيس برنامج الاتحاد الأوروبي بجامعة برينجستون: «إن الناس يستخفون بقوة أوروبا العالمية. إنها قوة ضرورية من جهات عديدة».
وقال «جيرمي شابيرو»، الذي شارك في إعداد تقرير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إن «أداءه ضعيف، مقارنة بإمكانياته. ونموذجه في أداء الأمور يتآكل في مواجهة تنافس جيوسياسي أكبر ولن ينجح في المستقبل».
وأوضح التقرير أن إحدى نقاط الضعف الرئيسية هي أن أوروبا لا تستخدم مجالات قوتها أو نفوذها الاقتصادي لدفع أهدافها الجيوسياسية، كما تفعل القوى الأخرى. وعلى سبيل المثال، فقد استغلت الولايات المتحدة هيمنة الدولار على النظام المالي الدولي لتهديد أي شخص يمارس أعمالاً في إيران، باستبعاده من المؤسسات المصرفية الأميركية. أما الصين، فمن خلال دفعها بـ«مبادرة الحزام والطريق» لبناء البنية التحتية، فهي تغري باستثمار المليارات من الدولارات لتوسيع نفوذها في جميع أنحاء آسيا وأوروبا.
ومؤخراً، وصفت المفوضية الأوروبية بكين بأنها «منافس اقتصادي...ومنافس نظامي» في المجال السياسي. وأوضح «شابيرو» أن الاتحاد الأوروبي ليس مستعداً للتصرف على هذا النحو، لأن مصمميه تركوا عن عمد الشؤون الجيوسياسية والدبلوماسية في أيدي حكومات الدول الأعضاء، مع تركيز عملية صنع القرارات الاقتصادية في بروكسل. وقد أدى هذا إلى تفتيت سلطة صنع القرار الأوروبي.
وأكد «مورافيسك» أن عملية صنع القرار المشتتة ليست هي العقبة الوحيدة. ففي بعض الحالات، يمكن للسياسات على المستوى القاري وعلى المستوى الوطني أن تعزز بعضها البعض، كما حدث مع سياسة الهجرة التي تشمل «الرشوة والترهيب»، على حد تعبيره.
وقد تراجع عدد المهاجرين الذين دخلوا أوروبا بنحو ثمانية أضعاف منذ عام 2015، حيث بلغت الهجرة ذروتها. يقول مورافيسك إن «هذا نجاح هائل» ناجم عن مزيج من مبادرات الاتحاد الأوروبي –مثل الاتفاق المبرم عام 2016 لدفع 6 مليارات يورو (6.7 مليار دولار) لتركيا لتأمين حدودها ومنع المهاجرين من السفر إلى الشمال بطريقة غير شرعية –والسياسات الوطنية مثل قرار إيطاليا بالتفاوض مع الليبيين لتأمين الحدود الجنوبية للبلاد بشكل أفضل، أو قيام المجر ببناء جدار حدودي.
ولكن في مجال العلاقات الخارجية الأوسع، «لن تكون الدول قادرة بعد الآن على حماية سيادتها الوطنية ما لم تجمع المزيد منها»، كما يرى شابيرو. وقال: «ما فعلته الدول مع السياسة التجارية في الستينيات، تحتاج إليه الآن عند التعامل مع الجغرافيا السياسية».
ومع وجود حكومات قومية في السلطة في العديد من العواصم الأوروبية، «سيكون الخيار بين التعاون في بروكسل أو التبعية غير الرسمية لمزيج من بكين وموسكو وواشنطن».
وأكد التقرير أن «الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى التفكير كقوة جيوسياسية. ويتعين على الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء إنشاء إما طريقة تفكير، أو آلية سياسية مكرسة لحماية قدرتهم الكلية على التصرف بشكل مستقل عن القوى العظمى الأخرى».
هذا يحدث بالفعل، كما تقول «نتاليا توتشي»، رئيس معهد الشؤون الدولية الإيطالي ومستشارة مفوضية السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي «فيديريكا موجيريني». وتشير «توتشي» إلى أنه منذ فترة طويلة سادت فكرة أن «أوروبا تنشر الخير لبقية أنحاء العالم من خلال أدوات قوتها الناعمة».
ويزداد الاتحاد الأوروبي صرامة، حتى في أكثر المناطق حساسية –الأمن والدفاع – حيث كانت الدول الأعضاء منقسمة منذ فترة طويلة حول قيمة وهدف وجود قوة عسكرية قوية. وفي نهاية 2017، وبعد نقاش طويل، أنشأ الاتحاد الأوروبي إطاراً يعرف باسم التعاون الهيكلي الدائم لتنسيق الإنفاق العسكري والاستثمار والعمل للحكومات الوطنية. إنه ليس جيشاً أوروبياً، لكنه قد يكون خطوة أولى.
كما يضاعف الاتحاد الأوروبي من دعمه للنهج متعدد الأطراف للحكم الدولي، على الرغم من ازدراء الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمثل هذا النظام. وقد وقعت بروكسل عدداً كبيراً من الاتفاقيات التجارية، خلال السنوات الخمس الماضية، مع اليابان وكندا وسنغافورة وفيتنام، وفي الأسبوع الماضي مع الكتلة التجارية لأميركا الجنوبية (ميركوسور).
كما لعب الاتحاد الأوروبي أيضاً دوراً رائداً في الدفاع عن دعائم النظام الدولي القائم على القواعد والذي تعرض للهجوم من واشنطن، مثل منظمة التجارة العالمية، وأنقذ وكالة المعونة الفلسطينية التابعة للأمم المتحدة من الإفلاس عندما انسحبت الولايات المتحدة منها.
وحتى لو كانت العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) في وضع قوي مثل الدولار الأميركي، فإن بروكسل لا يمكنها استخدام قوتها الاقتصادية والمالية بطريقة قسرية كما تستخدم الحكومة الأميركية عملتها، فلن يكون هناك ما يكفي من الدعم السياسي واسع النطاق. لكن الاتحاد الأوروبي يتخذ خطوات صغيرة في اتجاه توصيات المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، بأن الكتلة يجب أن تستغل نفوذها الاقتصادي لتحقيق أهداف سياسية.
وفي الآونة الأخيرة، حذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أن فرنسا لن تصدق على الصفقة التجارية التي وقعها الاتحاد الأوروبي لتوه مع ميركوسور، ما لم يحترم الرئيس البرازيلي «جايير بولسونارو»المعايير البيئية. ودفع هذا التحذير الزعيم البرازيلي إلى التخلي عن التعهد الذي قطعه أثناء حملته بأن يتبع الرئيس ترامب في الخروج من اتفاقية باريس بشأن التغير المناخي.
كما بدأت أوروبا في تشديد موقفها من الاستثمار الأجنبي، من خلال نية غير معلنة، وإنْ كانت واضحة لمواصلة مراقبة الاستثمارات الصينية عن كثب وربما تقييدها.
وفي محاولة للإبقاء على الاتفاق النووي الإيراني، أنشأت الدول الأوروبية «انستاكس»، وهي قناة معاملات جديدة تهدف إلى تجنب العقوبات الأميركية، والسماح للدول الأوروبية بمواصلة التجارة مع طهران من خلال وسائل غير نقدية. وقال شابيرو إن الآلية لا تغطي مبيعات النفط، التي تعد ضرورية لإيران، ولم تدخل حيز التنفيذ بعد «لكنها يمكن توسيعها، كما أنها تبين الرغبة في هذا النوع من التصرفات»، لتعزيز الحكم الذاتي الأوروبي. تقول «توتشي: نحن [الأوروبيين] بحاجة إلى شجاعة سياسية ليس فقط للتحدث عما نهدف إليه، ولكن أيضاً العمل على تحقيقه. علينا أن نمتلك الجرأة لكي نكبر.
*مراسل الشؤون العالمية بصحيفة كريستيان ساينس مونيتور- باريس.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»