تعرضت تركيا في إدلب لإهانة ما كانت لتحصل، لولا أن روسيا أرادتها وأجازت للنظام السوري إرسال طائرات حربية لقصف رتل عسكري تركي ووقف مساره ومن ثمَّ محاصرته. لم يُرسل هذا الرتل ليوقف اقتحام قوات النظام وحلفائه مدينة خان شيخون، لكن أنقرة حاولت الإيحاء للفصائل السورية المعارضة والموالية لها بأنها في صدد «إنقاذ» المدينة، بعدما أخليت من سكانها، وهؤلاء لم يكونوا يتعدّون الخمسين ألفاً في السابق وتضاعف عددهم في ظروف التهجير المتلاحق من مناطق سوريا كافة. واقعياً، أرادت تركيا تعزيز نقطة مراقبة لها في بلدة مورك القريبة من خان شيخون، عملاً باتفاق سوتشي (سبتمبر 2018) بين الرئيسين فلاديمير بوتين ورجب طيّب أردوغان الذي أتاح إقامة نقاط مراقبة في عموم محافظة إدلب، لكن المفاوضات لرفع الحصار عن الرتل أظهرت أن وجود نقطة مورك ما عاد مبرّراً ولا مقبولاً.
كانت هذه مجرّد نقطة تفصيلية على الجزء الظاهر من قمة جبل الجليد. فما بدا على المحك في المعارك الأخيرة أن جميع اللاعبين في سوريا، ولا سيما الروس والأميركيين، أرادوا فرملة الطموحات التركية، رغم تفاوت دوافعهم وأدوارهم. ذهب أردوغان بعيداً في تحدّي أميركا وحلف الأطلسي للحصول على صواريخ «اس 400» الروسية، فهادنته موسكو في إدلب ريثما تتم الصفقة، وما أن أصبحت نافذة حتى أصبح سيناريو التحرك جاهزاً لتغيير الواقع في إدلب. وذهب أردوغان بعيداً أيضاً في تحدّي روسيا عندما ضغط على واشنطن للحصول على «منطقة آمنة» حدودية، مستغلّاً عزم الرئيس الأميركي على الانسحاب من سوريا، وعندما أنذر أخيراً بأن جيشه مستعد لاجتياح منطقة شرق الفرات وبأن الوقت داهم، كان يعلم على الأرجح أن معركة إدلب آتية وستتسبب له بإحراجات يريد تجنّبها.
استجاب الأميركيون للإلحاح التركي وأبرموا اتفاقاً عاماً لا يفي بمتطلّبات أنقرة، لكنه يقرّ إنشاء «المنطقة الآمنة» والإشراف المشترك عليها.
هذا الاتفاق استفزّ الروس لأنه يتجاهل دورهم الرئيسي في سوريا، فضلاً عن أنه يشجّع أنقرة في محاولتها لانتزاع مصالح لها من أميركا وروسيا في آن. وعدا أنه لقي رفضاً مفهوماً من جانب دمشق، فإن إيران التي دخلت منذ شهور مرحلة تقارب مع تركيا لم تتقبّل الاتفاق، سواء لأن أميركا طرفٌ فيه، أو دعماً لحليفها السوري. حتى إسرائيل لم تدعم الاتفاق ولم يعكس الإعلام اهتماماً خاصاً به من حكومتها، وإذا كان الجانب الأميركي أبلغها بمحدوديته وبأن هدفه المباشر احتواء أي تحرك تركي مربك، فإنها ستحاول كعادتها استثماره لمصلحتها، ذاك أن أي تكريس أميركي لمنطقة نفوذ تركية في سوريا سيعزز حجة النفوذ الإيراني ويتطلّب بالتالي إرضاء إسرائيل، من قبيل الحفاظ على التوازنات.
من الواضح أن تركيا لا تستطيع لوم أحد غيرها على ما يحصل في إدلب، فهي تعهّدت في اتفاق سوتشي بإنشاء منطقة منزوعة السلاح في جنوبي المحافظة لتأمين الطرق السريعة الواصلة بين المدن الكبرى، حلب وحماة ودمشق واللاذقية، ولردع الفصائل المقاتلة عن مهاجمة القاعدة الروسية في حميميم. لكنها لم تتمكّن من التنفيذ لأن «هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة سابقاً» رفضت إخلاء تلك المنطقة. بل تعهّدت بموجب الاتفاق إنهاء وجود هذه «الهيئة»، المرتبطة بتنظيم «القاعدة» والمصنفة دولياً إرهابية، بالإقناع أو بالقوة، وما حصل أن «الهيئة» استطاعت أن تمدّ سيطرتها في عموم إدلب تحت أنظار نقاط المراقبة التركية. ومع أن اتفاق سوتشي أبرم بين روسيا وتركيا إلّا أن الولايات المتحدة أيّدت الأهداف التي حدّدها، خصوصاً ما يتعلّق منها بتصفية «الهيئة/ النصرة».