لم تكن مسودة الاتفاق، الذي توصل إليه المبعوث الأميركي إلى عملية السلام في أفغانستان، زلماي خليل زاد، مع حركة «طالبان»، في أول سبتمبر الجاري، إلا محاولة للبدء في عملية سلمية سرعان ما أوقفت. ويقتصر هذا النوع من مسودات الاتفاقات عادةً على مبادئ عامة، ولا يتضمن تفاصيل تتطلب خطوات أخرى كان مفترضاً أن تبحثها واشنطن، وربما جاءت فكرة الاجتماع السري، الذي كان مقرراً عقده بين الرئيس ترامب وقادة حركة «طالبان»، الأسبوع الماضي، ثم أُلغي، في إطار دراسة الموضوع بطريقة الرئيس الأميركي غير التقليدية. قرر ترامب إلغاء الاجتماع ووقف المفاوضات، بعد الهجوم الدموي الذي شنته حركة «طالبان» في كابول، وقُتل فيه 12 شخصاً، بينهم جنديان أحدهما أميركي والباقي مدنيون، وأُصيب أكثر من مائة.
وهذا قرار في محله تماماً، ويُفترض أن يكون مُنطلقاً لتصحيح المسار الذي بدأه المبعوث الأميركي، وقاد إلى مسودة الاتفاق الإطاري المجمد الآن. ويتطلب هذا التصحيح إجراء مراجعة جادة لجدوى المفاوضات مع «طالبان»، وهل أديرت بالكفاءة الواجبة والحذر اللازم في التعامل مع حركة لم تعرف إلا العنف منذ تأسيسها؟، ويتعين أن تشمل هذه المراجعة بالتالي تقييماً دقيقاً لمسودة الاتفاق الإطاري أياً يكون مصيره النهائي.
لم تُنشر هذه المسودة بعد، ولم يُعرف عنها إلا شذرات وردت في تصريحات هنا وهناك. وقد أصبح نشرها ضرورياً الآن، ليشارك معنيون بخطر الإرهاب في العالم، وليس المهتمون بالشأن الأفغاني فقط، في مناقشتها على نحو يتيح لترامب وإدارته فرصة لتقدير الموقف بشكل أفضل.
ولا يقل أهميةً، أن توازن واشنطن بين مكاسب الخروج الذي تريده من أفغانستان في أسرع وقت، وخسائر قد تترتب على تحولها إلى ملاذ للإرهاب مرة أخرى. فالتعجل غير المدروس يمكن أن يؤدي إلى تقديم تنازلات قد تُمكَّن «طالبان» من الهيمنة مجدداً. صحيح أنه يحق للولايات المتحدة التصميم على الخروج من مستنقع انزلقت إليه منذ 18 عاماً، وإنهاء أطول حرب في تاريخها. ولكن صحيح أيضاً أنها ذهبت إلى هذا المستنقع بإرادتها، ولم تفكر إدارة بوش الابن حينئذ في خيارات أقل تكلفة وأكثر فاعلية لمواجهة الإرهاب، الذي ضربها انطلاقاً من أفغانستان في هجمات 11 سبتمبر.
ولعله مفيد، أن تبدأ المراجعة المطلوبة بسؤال بسيط عن مدى منطقية أن تفاوض الولايات المتحدة حركة «طالبان» في غياب حكومة كابول، التي ترفض تلك الحركة أي تعامل معها بدعوى أنها دمية بين أيدي الأميركيين. فهل كان قبول اشتراط حركة «طالبان» استبعاد حكومة شرعية من مفاوضات حول مستقبل دولة بأكملها، بما يعنيه ذلك من إقرار ضمني بالطعن في هذه الشرعية، موقفاً صائباً منذ البداية؟ وألم يشجع هذا القبول «طالبان» على ترسيخ الادعاء بأنها هي من يُمثل الشعب الأفغاني؟ وهل يفيد، والحال هكذا، أن تكون المفاوضات بين «طالبان» وحكومة كابول تاليةً لإبرام اتفاق بين الحركة المسلحة وواشنطن؟ وألا يُضعف هذا الترتيب موقف حكومة كابول في المفاوضات؟
وثمة سؤال، لا يقل أهميةً عن اختزال حركة «طالبان» كلها في عدد من الأشخاص الذين اختارتهم ليتفاوضوا باسمها. فقد اُختير هؤلاء بعناية بحيث يقدمون صورة إيجابية عن الحركة، ولكنها لا تعبر عن حقيقتها كما اتضح في هجوم كابول الدموي. أعضاء وفد حركة «طالبان» في المحادثات مبتسمون غير متجهمين، ويتعاملون بلطف مع السيدات وليس مع الرجال فقط، ويُفرطون في المجاملات والوعود البراقة، على نحو لا بد أن يدفع إلى الشك أكثر مما يؤدي إلى اطمئنان.
أما السؤال المحوري، الذي يُفترض أن يحظى بأكبر قدر من العناية والتدقيق، فهو عن كيفية التحقق من صدقية أي تعهدات تقدمها «طالبان»، وهي التي تواصل العنف حتى بعد التوصل إلى مسودة اتفاق.
فلم يكن هجوم كابول الوحيد الذي شنته «طالبان» بعدها. هجمات «طالبان» لم تتوقف في الأيام الخمسة بين إعلان إنجاز تلك المسودة، وهجوم كابول. ومنها على سبيل المثال الهجمات الواسعة في ولاية قندوز في الشمال، وفي إقليم أوروزجان في الوسط، وغيرها مما يضع إدارة ترامب أمام مسؤولية تاريخية، تفرض إجراء المراجعة الضرورية لتجربة المفاوضات معها، والعمل لتوفير الظروف اللازمة لتغيير الأسس التي أُجريت بناءً عليها. والأرجح أنها ستفعل، لأن مصلحتها في منع تحول أفغانستان ملاذاً للإرهاب العالمي مرة أخرى، لا تقل عن مصلحتها في إنهاء حرب صارت عبئاً متزايداً على الولايات المتحدة.