ليس كل ما يخص القضية الفلسطينية اليوم سيئاً، صحيح أن الاستيطان يتضاعف في الضفة الغربية، وصحيح أن القدس في فوهة مدفع التهويد، وصحيح أن الدولة الصهيونية عقدت نيتها على ضم الأغوار، وصحيح أن قطاع غزة محاصر ويعاني ما يعانيه، وصحيح أيضاً، أنه منذ توقيع معاهدة أوسلو وحتى اليوم يتواصل سفك الدماء وسرقة الأرض، وصحيح أن الولايات المتحدة تمادت في دعم التطرف اليميني الاستيطاني، متجاهلة القانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان.. لكن هناك تطورات إيجابية متوالية بشأن القضية الفلسطينية لا يمكن التغاضي عنها. وهذه التطورات الإيجابية تحدث في العالم وفي فلسطين التاريخية، في أراضي 1948، وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، في ظل عدم قدرة الدولة الصهيونية على تبرير جرائمها وعنصريتها، المتمثلة في تأسيس دولة آبارتايد، تواصل ممارساتها العنصرية.
في الغرب، ينتصر أنصار الحق الفلسطيني في مواجهة أنصار مؤيدي الفصل العنصري الإسرائيلي، ومن أكبر التطورات الأخيرة لصالح القضية الفلسطينية كان مؤتمر حزب العمال البريطاني (الأكبر حجماً بين كافة الأحزاب في القارة الأوروبية)، والذي أعاد التأكيد على مواقفه في دعم القضية الفلسطينية، فمن تابع المؤتمر ظنّه مؤتمراً من أجل فلسطين، وإن كانت قضية «بريكست» هي الطاغية على المؤتمر، حيث جرى تثبيت أعلام فلسطين، وشعارات دعم القضية الفلسطينية على جدران قاعات المؤتمر الخارجية، وعلت الأصوات داخل القاعات بالشعارات الداعمة للقضية. وقد اتخذ المؤتمر قراراً بالأغلبية الساحقة، اعترف فيه لأول مرة بحق العودة للشعب الفلسطيني، (ليس إلى دولة مستقبلية مفترضة، بل إلى «إسرائيل»)، كذلك اتخذ قراراً بمعارضة الصفقات التجارية التي لا تساند حقوق الفلسطينيين، بما في ذلك بيع الأسلحة لإسرائيل، عندما لا تلتزم بقرارات الشرعية الدولية وحقوق الإنسان، كما اتخذ المؤتمر قراراً برفض ما يسمى «صفقة القرن». وفي خضم ذلك، ومع فشل الدولة الصهيونية في اتهام قيادة الحزب بـ«معاد للسامية»، وزعت أغلبية اليهود بالحزب نشرات تقارن الصهيونية بالنازية.
أما الاتحاد الأوروبي، فهو ماضٍ في سياسته، باستمرارِ تقديمِ الدعم المطلوب منه تجاه القضية الفلسطينية، واستمرار العمل على «حل الدولتين»، وحق المواطن الفلسطيني في بناء دولته المستقلة، وقد دعا الاتحاد مؤخراً إسرائيل إلى «إنهاء جميع الأنشطة الاستيطانية، وتفكيك البؤر الاستيطانية، التي أقيمت منذ مارس 2001، تماشياً مع الالتزامات السابقة». وقال، في بيان صحفي، رداً على اقتراح لإقامة مستوطنة جديدة، في وادي الأردن بالضفة: «إن جميع المستوطنات في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، غير قانونية بموجب القانون الدولي. ومن شأن هذه الخطوات، إذا ما نُفّذت، أن تشكل انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي، وتحدياً لحل الدولتين، وتهديداً للاستقرار الإقليمي وآفاق السلام المستدام». بل شدد على أنه «لن يعترف بأي تغييرات في حدود ما قبل عام 1967، بما في ذلك ما يتعلق بالقدس، بخلاف تلك التي يتفق عليها الطرفان».
كما نجحت «حركة مقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها (‏BDS)» في أن تصبح من الأخطار الاستراتيجية التي تواجهها الدولة الصهيونية، حيث صرفت ملايين الدولارات في حملات عديدة لمواجهتها. ورغم ذلك، تتوالى نجاحاتها وهي الحركة المعتمدة على الجهود الطوعية لأفراد ومؤسسات مؤيدة لحقوق الإنسان، وإعلاء شأن القانون الدولي، ونجاحاتها مبهرة لا يمكن تجاهلها، تنعكس عبر ما نراه من هلع إسرائيلي. وفي هذا السياق، وقبل أيام فقط، عرض وزير الأمن الداخلي والشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، غلعاد إردان، أمام أعضاء البرلمان الأوروبي في بروكسل تقريراً جديداً، أعدته وزارته يكشف ما ادعى أنه «الطابع المعادي للسامية لحركة BDS»، حيث دعا «إردان» دول الاتحاد الأوروبي إلى عدم المشاركة في حملة هذه الحركة، التي وصفها بأنها «عنصرية»! لكنه لم يحصد سوى الفشل.
وفيما تشيطن الدولة الصهيونية، العربيَّ الفلسطيني في أراضي 1948، حيث سنت أخطر القوانين وأكثرها عنصرية، وعلى رأسها «قانون القومية»، وهي في طريقها لسن المزيد من هذه القوانين.. جاءت انتخابات «الكنيست» (البرلمان الإسرائيلي) الأخيرة، لتؤكد التفاف فلسطينيي 48 حول أنفسهم، وأنه رغم كل الخلافات، فهم في نهاية المطاف، ضحايا لنكبة مستمرة، على يدي فاشية في مرحلة متقدمة من التمدد.
ولا بأس أن نذكِّر، بمخاوف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية المتكررة من انتفاضة فلسطينية جديدة، مع تصاعد العمليات المسلحة «الفردية»، التي تستهدف المستوطنين وقوات الاحتلال، سواء في الضفة الغربية أو عبر قطاع غزة، باعتبارها انعكاساً طبيعياً لغياب الأفق الاقتصادي والسياسي، في ظل استمرار السياسات الإسرائيلية اليمينية المتطرفة الداعمة للاستيطان، والتي تؤكد الأجهزة الإسرائيلية أنها ستتسبب لا محالة في استمرار تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والإنسانية في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، ما يؤدي إلى حالة أوسع من «الفلتان» والفراغ الأمني، تشكل تهديداً لإسرائيل، خاصة أن انتظام «مسيرات العودة» أقنعت كثيرين في الدولة الصهيونية، بأن الصغار من الفلسطينيين محال أن ينسوا وطنهم وديارهم، حتى مع رحيل الكبار. فجيل الشباب الفلسطيني ما زال يؤمن بحتمية وأحقية العودة، حتى أضحت هذه المسيرات حدثاً تربوياً تثقيفياً توعوياً لأجيال متمسكة بفلسطين وطناً وقضية.
الفلسطيني خلق متفائلاً، ودائماً ما يرى النصف الممتلئ من كوب الماء، ولطالما غلّب مشاعر التفاؤل على مشاعر التشاؤم. وهنا، أعيد وأكرر أن أكثر ما نحتاجه في هذه الظروف العصيبة: جرعات من الأمل والتفاؤل الإضافية، التي تصنع التوازن في نفوسنا ومساراتنا وحياتنا، وتقاوم ما تصنعه الوقائع من روح تذمر وشكوى، وما يبثه محترفو صناعة اليأس من تجذير الشعور بالدمار، فلطالما كانت الغلبة للتفاؤل، فهي أوجب وأدعى.