لو لم يعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن سحب قوات بلاه، ما كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليقدم أبداً على شن هجوم ضد شمال سوريا. فالعمليتان مترابطتان عملياً، حيث كانت ثمة مكالمة هاتفية بين ترامب وأردوغان أخبر خلالها الرئيس الأميركي نظيره التركي بأنه لن يعارض هذا الهجوم. ولأن الطبيعة تكره الفراغ، فإن الانسحاب الأميركي هو ما سمح لأردوغان بنشر جنوده معتقداً أنه سيحقّق نصراً سهلاً وسينجز هدفه المتمثل في منع اندماج بين أكراد سوريا وأكراد تركيا، أو على الأقل منع إنشاء منطقة كردية مستقلة على حدودها.
والواقع أن الاتفاق المبرم بين الاتحاد الأوروبي وتركيا بخصوص اللاجئين لا يسمح لتركيا بالتدخل من دون خوف من العقاب. غير أن الوجود الكبير للاجئين (3.6 مليون شخص) في تركيا يمنحها تأثيراً، بل ورقة لابتزاز البلدان الأوروبية. فنحن نعلم أن أزمة اللاجئين والمهاجرين في عام 2015 تركت آثاراً في أوروبا، حيث قسّمت النقاشاتُ التي أثارتها تلك الأزمة الدولَ الأوروبية، في ما بينها وداخلياً، بين بلدان مستعدة لاستقبال المهاجرين وأخرى رافضة لهم.
لقد تقلص عدد المهاجرين واللاجئين حالياً، لكنه إن عاد للارتفاع مجدداً فستعود هذه النقاشات للظهور مرة أخرى، رغم أنها لم تنته تماماً. ويعد اكتساح اليمين المتطرف للقارة الأوروبية منذ 2015 نتيجة لأحداث تلك الفترة. وبالتالي، فإن أردوغان يلعب على هذا الخوف، خوف ليس داخل الرأي العام الأوروبي فحسب، ولكن أيضاً داخل الطبقة السياسية الأوروبية التي تخشى تدفق اللاجئين والمهاجرين من جديد. ويعتقد أنه إن لوّح بهذا التهديد إزاء أوروبا، فإن هذه الأخيرة ستلين وتصبح أكثر استعداداً للتنازل. ولهذا السبب وقّع الاتحاد الأوروبي اتفاقاً مع تركيا، واعداً إياها بستة مليارات يورو من المساعدات من أجل أن يبقى اللاجئون على أراضيها وأن تحول دون نزوحهم نحو أوروبا. لكن أردوغان لا يستطيع إرسال ثلاثة ملايين لاجئ مباشرة إلى أوروبا، بيد أنه قد لا يعدم وسائل للضغط.
ومن جانبهم، يملك الأكراد وسيلة ضغط على أوروبا متمثلة في الـ12 ألف سجين الذين ما زالوا معتقلين في المنطقة، ومن بينهم مقاتلون من أصول أوروبية. وبالفعل، فبدون دعمهم أمام تركيا، لن يستطيع المقاتلون الأكراد تدبير قضية السجناء والدفاع عن أراضيهم أمام الجيش التركي في آن معاً. لهذا، فإن الخطر بالنسبة للبلدان الأوروبية يتمثل في رؤية مقاتلين سجناء يعانقون حريتهم ويعودون إلى أوروبا، وهو ما يشكّل تهديداً للأمن على التراب الأوروبي.
وبالتالي، هناك خوف مزدوج للبلدان الأوروبية بخصوص الأحداث الحالية: خوف من تدفق كبير للاجئين القادمين من تركيا في حال سمحت هذه الأخيرة بذلك أو سهّلته، وخوف من تدفق أقل حجماً، لكنه حقيقي ومقلق للسجناء، لمقاتلين يتحرَّرون ليستأنفوا تنفيذ هجمات داخل أوروبا.
وبالتالي فالأوروبيون في مأزق، ذلك أنهم بالطبع لن يبعثوا جنوداً إضافيين إلى المنطقة، ولن يقاتلوا الجيش التركي. غير أنه ينبغي الرد على ابتزاز أردوغان بشأن تدفق اللاجئين وعلى العمليات التي يقوم بها في المنطقة من خلال التلويح بعقوبات اقتصادية وتجميد العلاقات. ولأن الزعماء الأوروبيين يعتقدون، عن حق، أنه إذا عادت الفوضى من جديد -لأن أردوغان لن يستطيع السيطرة على الوضع تماماً- فإن الأوروبيين لن يكون لديهم واجب تضامن أخلاقي فقط إزاء الأكراد السوريين الذين لعبوا دوراً أساسياً في محاربة تنظيم «داعش»، ولكن مصلحة أيضاً، لأنه إذا تحرّر عناصر تنظيم «داعش» وهربوا وعادوا إلى أوروبا من أجل ارتكاب هجمات، أو في حال تمكن التنظيم، بسبب الفوضى، من إقامة قاعدة له في هذه المنطقة، فإن أمنهم سيتأثر بشكل مباشر.
لقد بات ترامب الآن يثير شك حلفائه، ذلك أن مصداقية الالتزامات الأميركية باتت محل شك. وبينما يصر أردوغان على هدفه، اضطر الأكراد السوريون للتقرب من دمشق وأخذوا يفقدون كل استقلالية، وهو الهدف الأساسي للرئيس التركي. فبالنسبة له، المسألة الكردية ليست مسألة أمن فقط، وإنما مسألة وجودية بالنسبة لتركيا، طالما أن الخوف من الانفصال كبير. أما الرابحان الآخران من العملية، فبشار الأسد الذي أدخل بلده في حرب أهلية وما يزال في السلطة، وروسيا التي تعمل على تعزيز دورها البارز في المنطقة.

*مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية -باريس