لابد من الاعتراف بأن دولة الإمارات العربية المتحدة ليست بلداً تقليدياً خاضعاً لتوقيتات الأزمنة الراهنة بتعقيداتها الآنية، وليس بلداً مشدوداً إلى التواريخ البعيدة وتوابعها، فكلما اقتربت من هذه البلاد اكتشفت طريقة مختلفة في النظر إلى المستقبل، طريقة لا يمكن مقارنتها بقرارات تتخذها كثير من الأنظمة في العالم لبلوغ رهاناتها، بل في الإمارات هناك طريقة أخرى في النظر وفي صناعة أهداف صعبة ضمن المنظور المتوسط على أقل تقدير، على أن تتحول هذه الأهداف إلى حقائق واقعية بعد سنوات محددة، وذلك وفق قراءة دقيقة لما يجب أن يكون عليه حال الإمارات في ذلك المدى الزمني.
وبالتزامن مع عودة رائد الفضاء الإماراتي هزاع المنصوري، كان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، يطلق مشروعاً آخر لإرسال الإمارات أول مسبار إلى كوكب المريخ في عام 2020، وكان ذلك تأكيداً على أن المشروع الفضائي الإماراتي سيواصل إبهار العالم الذي عليه أن يستعد لما ستضيفه الدولة في هذا المجال بعد أن ظل لعقود طويلة حكراً على دول قليلة قدمت للبشرية الكثير من الاكتشافات والمعارف حول علوم الفضاء كواحد من أهم منجزات الإنسان ومحاولاته معرفة ما حوله وما يمكن أن يستفيد منه في تطوير الأرض عبر استكشاف الفضاء الخارجي.
عاد المنصوري ولم تنته الطموحات، فقد أعلنت الإمارات تأسيس جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي. وبعد مشاهدتي المقطع المصور الذي نشره موقع وكالة أنباء الإمارات لكلمة معالي الوزير الدكتور سلطان الجابر حول إعلان التأسيس، كونه رئيس أمناء الجامعة، وجدتني أعيد مشاهدة المقطع لأكثر من مرة، إذ أن إنجازاً كهذا يمثل بذرة وضعت في الأرض وسيتم الاعتناء بريها حتى تنبت ويشتد عودها ثم تحصد ثمارها في عام 2031.
في هذا الشرق الأوسط المضطرب، بل والمحترق بالأزمات والصراعات وبانحسار أفق الحلول للخروج من نزاعاته، هناك قلّة يفكرون بطريقة مختلفة ويضعون قرارات مختلفة، على شاكلة إنشاء جامعة متخصصة في الذكاء الاصطناعي تبدأ في تكوين صناعة مختلفة لزمن سيكون مختلفاً بعد سنوات من الآن. هذه النوعية من القرارات غير التقليدية تمنح المنطقة أفقاً مفتوحاً لرؤية تقوم على أسس، منها متانة الدولة الوطنية كقاعدة ارتكاز صلبة، كما تؤكد أن التعايش مع المراحل القادمة يتطلب الاستعداد لمواجهة استحقاقاتها.
عالم قواعد البيانات والأنظمة التكنولوجية في المستقبل سيختلف تماماً عن عالمنا الحالي بمحدداته المختلفة. عالم المستقبل ستلعب فيه التقنية الرقمية دوراً محورياً في تشكيل حياة الإنسان، وهي ما سيحدد مرتكزات القوة في عالم سيعتمد كلياً على البنية التحتية من التقنيات المتقدمة التي ستفرضها طبيعة العالم القادم، فما كان عالماً افتراضياً سيتحول إلى واقعي، حيث يتعين على الدول أن تفرض وجودها هناك.
المنتج التقني بحد ذاته سيتحول إلى ثروة من الثروات، كالنفط والغاز والذهب.. والدول التي تذهب للمستقبل ستبني هذه الثروة عبر مؤسساتها وهيئاتها وجامعاتها، عبر تأهيل الكوادر القادرة على تحمل المسؤولية وتحقيق الجودة في سباق سيكون صعباً بين المتنافسين على تقديم أفضل منتج سيدخل في أدق تفاصيل الحياة البشرية وسيخلق أنواعاً مختلفة من الفرص الاقتصادية في واقع جديد متكامل.
  الذكاء الاصطناعي بصدد تغيير نمطية الحياة، كما غيرتها من قبل ثورة الحواسيب حين أزاحت مئات الوظائف، فإن الذكاء الاصطناعي اليوم يقود الطائرات ويحرك البواخر ويُجري أدق العمليات الجراحية للإنسان الذي أصبح يسلم جسده للروبوتات لتقوم بمعالجته وإصلاح أعطاب جسمه.. هذا المتغير الملموس سيتقدم خطوات في تشكيله عالماً سيتدخل الذكاء الاصطناعي في تفاصيل حياته إلى مديات أبعد من ذلك بكثير.
تأهيل الأرضية البنيوية للمستقبل ليس ترفاً، بل مهمة ضرورية ومسؤولية صعبة تفرضها تحديات يجب الاستعداد لمواجهتها في موعدها والتعامل معها بما ستفرضه، وبما سيكون عليه حال إمكانيات وقدرات التعاطي معها. لقد أطلقت دول مثل اليابان والصين وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة وبلدان في الاتحاد الأوروبي.. مشاريعها للمستقبل، ويكفي النظر فقط إلى تطور الهواتف المحمولة التي بأيدينا اليوم وكيف كانت قبل خمس سنوات مضت، لنعرف مقدار التطور السريع في جانب واحد من جوانب التقدم في هذا المجال.
وفي هذا الخصوص فإن الإمارات تمتلك قيادة مختلفة في تطلعها للمستقبل، وهي تنظر برؤية أبعد من واقع الشرق الأوسط واضطراباته المزمنة. الأوطان السليمة تعرف أين تذهب وكيف تجد الطريق لمواصلة مشوار النجاح.. والإمارات نموذج مختلف في المنطقة، بقيادة مختلفة في قراءتها للحاضر والمستقبل معاً، لذلك فهي ترى القادم بطريقة أخرى.. قرارها الأول يظل هدفه تنمية الإنسان، فهو رهانها الأول والأخير لتحويل المستحيل إلى ممكن، وذلك عبر تغذيته بالمعرفة والمهارات وتأسيسه بطريقة صحيحة، وصولاً إلى عام 2031 بطريقة أسرع وأنجع.
*كاتب يمني