«متناسب، مدروس، ومسؤول»، ليست هذه الكلمات الأولى التي تتبادر إلى الذهن عند التفكير في الهجوم التركي على الأكراد في شمال سوريا، والذي بدأ هذا الشهر، لكن تلك هي الكيفية التي وصفت بها تركيا الهجوم، في خطاب أرسلته إلى مجلس الأمن الدولي، في اليوم الذي بدأت فيه عمليتها العسكرية، وزعمت تركيا أن الهجوم له ما يبرره، وهو «حق الدفاع عن النفس المنصوص عليه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، لمواجهة التهديد الإرهابي الوشيك، وضمان أمن الحدود التركية، وتحييد الإرهابيين»، والآن وبعد توقف متوتر لإطلاق النار تسبب الهجوم في إخلاء المنطقة من مئات الآلاف من المدنيين، ما زاد من جحافل النازحين في الشرق الأوسط.
وربما كان الزعم التركي سيصبح مثيراً للضحك، إذا لم يكن الوضع رهيباً للغاية، ولا يوجد دليل يذكر على أن المقاتلين الأكراد في سوريا كانوا يشكلون تهديداً أمنياً كبيراً لتركيا، ولم يكن هناك بالطبع تهديد جديد يبرر الهجوم المفاجئ، والتطور الوحيد الجديد كان قرار الرئيس ترامب سحب القوات الأميركية والدعم الجوي الأميركي من المنطقة، والسماح للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشن هجوم دون خوف من الانتقام الأميركي.
فمن أين جاء أردوغان بفكرة أنه يمكنه استخدام ادعاء الدفاع عن النفس لتبرير شن هجوم عدواني على أراضي دولة أخرى ذات سيادة؟ لقد حصل عليه منا، حيث استغل أردوغان ثغرة قامت الولايات المتحدة وغيرها من أعضاء مجلس الأمن بإنشائها وتوسيعها بمرور الوقت.
كان تبرير استخدام القوة للدفاع عن النفس، كما كان متصوراً في الأصل، محدوداً للغاية. ينص ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945، والذي صاغته الولايات المتحدة، على أن أعضاء الأمم المتحدة «يجب أن يمتنعوا في علاقاتهم الدولية عن التهديد أو استخدام القوة ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة». وكانت هناك ثلاثة استثناءات: أولاً؛ يمكن لمجلس الأمن أن يأذن بالتدخل «لصون أو استعادة السلام والأمن الدوليين».. ثانياً؛ يمكن لدولة الموافقة على استخدام القوة من جانب دولة أخرى على أراضيها.. ثالثاً؛ إذا تعرضت دولة عضو لـ«هجوم مسلح»، يمكنها اتخاذ خطوات ضرورية ومتناسبة للدفاع عن نفسها، ويسمح لها القيام بذلك «حتى يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة للحفاظ على السلام والأمن الدوليين»، وهي تدابير قد تشمل السماح للدول باستخدام القوة لصد المعتدي.
كان واضعو الميثاق يدركون أن الحق الموسع في الدفاع عن النفس – والذي يسمح للدول بشن حرب «دفاعية» رداً على تكديس الأسلحة من قبل دولة منافسة، مثلاً – يمكن أن يلغي حظر الميثاق لاستخدام القوة، لذلك فقد تعمدوا أن يكون ذلك محدوداً، بيد أن هذا الاستثناء المحدود توسع بمرور الوقت.
وبعد التفجير الذي طال السفارة الأميركية، ومنشآت عسكرية أميركية، في بيروت عام 1984، أصدر الرئيس رونالد ريجان قراراً يزعم أن «النشاط الإرهابي الذي ترعاه دولة أو التهديدات الموجهة بهذا العمل تعتبر أعمالاً عدائية، وستُحمل الولايات المتحدة الرعاة المسؤولية، وكلما توفرت لدينا أدلة على أن دولة تنوي القيام بعمل إرهابي ضدنا، فإننا نتحمل مسؤولية حماية مواطنينا وممتلكاتنا ومصالحنا»، وقدم هذا التوجيه أول علامة على التحول في تفكير الحكومة الأميركية تجاه التهديدات الإرهابية، من خلال اتخاذ إجراءات أكثر وقائية.
وعندما تولى جورج بوش الابن الرئاسة، أيد الضربات الوقائية كدفاع ضد التهديدات الأمنية الفورية أو المستقبلية، وسرعان ما شن حرباً على العراق لـ«الدفاع» عن الولايات المتحدة من أسلحة الدمار الشامل، التي تبين أنها غير موجودة، وأدى الاضطراب الناتج عن الحرب إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط، وظهور جماعة متمردة، تعرف باسم «القاعدة في العراق»، والتي أصبحت فيما بعد «داعش».
ورفض باراك أوباما مبدأ بوش، لكنه واصل تبرير العمليات العسكرية الأميركية، في ظل فهم واسع للدفاع عن النفس، وفي 2014 أرسلت إدارة أوباما خطاباً إلى الأمم المتحدة، تعلن من خلاله خططاً للانخراط في «أعمال عسكرية ضرورية ومتناسبة في سوريا»، ضد عناصر «داعش» و«القاعدة» هناك، استناداً إلى المادة 51 التي تنص على حق الدفاع عن النفس، نيابة عن العراق (الذي طلب المساعدة الأميركية).
وحتى بعد أن تبدد التهديد المباشر للعراق، استمرت العمليات العسكرية ضد «داعش» في سوريا، وواصلت إدارة ترامب العمليات في سوريا وفقاً لنفس النظرية، حتى بعد أن فقد تنظيم «داعش» سيطرته على أي منطقة مهمة، وبعد ذلك أحدثت الإدارة تطوراً رائداً في حجة الدفاع عن النفس، حيث ادعت الحق في الانخراط في «دفاع جماعي عن النفس عن قوات التحالف المشاركة»، لتبرير قيامها في يونيو 2017 بإسقاط طائرة سورية على الأراضي السورية، بعد أن أسقطت هذه الطائرة قنابل بالقرب من «قوات سوريا الديمقراطية»، المدعومة من الولايات المتحدة.
وبالنظر إلى هذا النمط، من السهل أن نرى سبب شعور تركيا بالجرأة في تأكيد حق الدفاع عن النفس، في مهاجمة نفس القوات (أي «قوات سوريا الديمقراطية»)، وعليه ستضطر هذه القوات بقيادة الأكراد، والتي قاتلت إلى جانب القوات الأميركية ضد «داعش» لسنوات، إلى مغادرة شمال سوريا أو ذبحها عندما ينتهي وقف إطلاق النار، هذا القتال سيزيد من زعزعة الاستقرار في المنطقة، وسيؤدي إلى إطلاق سراح الآلاف من مقاتلي «داعش»، ويعزز وضع الحلفاء الإقليميين للرئيس بشار الأسد في سوريا.

*أستاذ القانون والعلوم السياسية في جامعة يل
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»