اصطحبتُ العائلة إلى مشاهدة فيلم جاء في أنسب وقته، وأدق الظروف التي تمر بها المنطقة. حقا «وٌلد ملكا»، فيصل، رجولة خُلقت في طفولته، استثناء رباني استعداداً لأداء دور لا زال ماثلا أمام العيان. شخصية حيّرت ساسة العالم بصلابتها.
فيصل كان أصغر أبناء الملك عبدالعزيز، جعل فيه كل ثقته، عندما أرسله ممثلاً شخصياً عنه في المحفل الدولي الوحيد آنذاك بريطانيا العظمى.
فمهمته لم تكن سهلة، لأنه، آنذاك، كان في الرابعة عشر من العمر في مقابل دهاة الساسة الذين حكموا العالم لقرون.
فيصل الطفل مقابل تشرشل، ذاك الرجل ضخم الجثة ومن العيار الثقيل عقلاً وحنكة ودهاءً. ومن بين سطور السياسة، يخرج في الاجتماعات «لورانس العرب»، بغترته وعقاله وبإتقان لهجات القبائل العربية في «أعمدة الحكمة السبع».
كانت مهمة الطفل المفعم بالرجولة شاقة أمام رجالات الدولة البريطانية العميقة بثعلبها الماكر. وصل فيصل الطفل إلى بريطانيا بعد رحلة شاقة وممرضة، وقد شعر بفطرته السياسية بأن بريطانيا العظمى تُعامله كطفل مكانه في حديقة عامة يلعب بالحمام ويقضي الأشهر هناك في غده يلهوا ليتعب ثم ينام. ولكنه لم يخلق لذلك، لأن الخيل والبيداء والسيف والقلم تعرفه والصقر لعبته، ووصية والده من بين عينيه تقلق نومه ولكن لا تغلق طريق طموحه.
فأمله أكبر من اللعب بالحمام في «الهايد بارك»، وإنما هو ألا يرجع مخيباً ثقة والده فيه، ويجعل حلمه في أن يصبح ملكاً واقعاً جديداً في أرض الجزيرة العربية. فيصل كان طموحاً، فلم ييأس من طول انتظار من يفتح له نافذة للقاء من بيدهم مفاتيح مغاليق السياسة البريطانية.
لقد كان بارعاً في تكوين العلاقات، وترسيخ القناعات في عقول ونفوس من كانوا حوله من السياسيين، وإنْ لم يصلوا إلى مرتبة اتخاذ القرارات الحاسمة والتي تخص والده عبدالعزيز.
وكان أول من فتح له طريق الوصول إلى عتاولة السياسة في بريطانيا العظمى هي الأميرة «ماري»، التي اقتربت منه أكثر من الآخرين حوله، فعن طريقها التقى بمونتيجمري، ومن بعده الجميع بمن فيهم الملك والملكة. لقد وصاه والده منذ التربية الأولى على السياسة، وكانت الحروب مشتعلة آنذاك، بأن السياسة أهم من الحرب وأخطر وعند العشاء لا سياسة.
فالمهمة الأولى لفيصل أن يعود ومعه شهادة الجدارة السياسية لوالده، كي يصبح ملكا لـ«نجد» وباعتراف العالم آنذاك والمختزل في قلب لندن.
بعد ذلك كانت الاجتماعات الرسمية منفردة تنهال عليه، ووصايا والده بين عينيه، وفي كل اجتماع كان يقوي قناعات الساسة البريطانيين بكل درجاتهم في سلم الحكم والحنكة، بجدارة والده لاعتلاء عرش المملكة.
كانت لبريطانيا عين من شقين، شق مع الحسين وآخر على عبدالعزيز، وآنذاك كانت تصر على مقولة «فرق تَسُد»، من هنا كاد فيصل أن ييأس
فكان قرار عودته بخفي حنين قاب قوسين أو أدنى، مع إصرار مستشاره «بن ثنيان» على الرجوع، إلا أن فيصل كان بيده القرار الفصل، فأصرّ على البقاء من أجل رفع شأن والده، وبغير ذلك لا وجه له لملاقاته، وبعد الكثير من الجدل بين الساسة البريطانيين، وكلهم ممن ثقل عياره، خطف فيصل تاج الملك من بريطانيا قافلا إلى نجد ليضعه على رأس أبيه ملكاً معترفاً به أمام العالمين.
فعلها فيصل في رجولة طفولته، وواصل سيرة والده في كهولته عندما هددت أميركا المملكة في عهده بالتجويع فرد عليها: نحن أمة الأسودان، التمر والماء.
وها هي المملكة في ثوبها القشيب وسياساتها الحكيمة تكمل سيرة الملك فيصل الذي استشهد في 25 مارس 1975، ولم يختلف على علو شأنه لا الخصم ولا الصديق الحميم، كان فيصلاً للحق وقبساً يضيء دروب الأجيال نحو المعالي بالمعاني.
*كاتب إماراتي