أن نسمع عن خروج بعض أبناء الشعوب العربية إلى الشوارع، من أجل التظاهر ضد الجوع والعطش وتردي الأحوال المعيشية، وانعدام أسس الحياة الكريمة، في مناطق يضربها الجفاف والمجاعة والقحط، بشكل دوري ومتواصل، أمر طبيعي، وتعوّدنا على مشاهده في وسائل الإعلام كل موسم، ولا عجب في ذلك، ولا جديد، لكن أن تنقل لنا الأنباء بأن الشعب اللبناني هذه الأيام هو الذي يتظاهر ضد شظف العيش والحاجة إلى حد الجوع، فهذا هو الأمر الذي فيه العجب العجاب، فمنذ متى أصبح اللبنانيون على شفى خطوة أو أقل من التضور جوعاً؟ ما نشاهده ونسمع به الآن، هو أن لبنان في حالة من التدهور على جميع الأصعدة تقريباً. الصورة التي تصلنا من خلال المظاهرات وسد الطرق والجسور، وتخرج من هناك، مدهشة ولا تبشر بالخير، وهي حقيقة متناقضة جداً مع الصورة التي أحملها ذهنياً عن هذا البلد العربي الجميل، المليء بالخيرات، والذي يقطنه شعب عامل ومجد ومبدع وخلاّق، هي متناقضة الصورة، إلى الدرجة التي جعلت الأمر ملتبساً وغامضاً وغير مفهوم، فما الذي حدث؟ ولماذا يشتكي اللبنانيون بحدة من الحاجة والعوز؟
الصورة تعكس ارتفاعاً في مد الموج الصاعد، في حدة الخلافات بين الشعب اللبناني وسياسييه، والنخبة السياسية والاقتصادية والمجتمعية، وربما الطائفية في جانب، وبقية العناصر والمسميات في جانب آخر، حول قضايا خلافية أساسية، تحدد مصير ومستقبل لبنان كوطن، ومصير الشعب اللبناني كمواطنين، يرغبون في العيش في بلادهم في سلم وأمان ورغد في العيش، تعودوا عليه جيل بعد آخر، بالإضافة إلى تأثير ما يحدث في لبنان على المنطقة العربية وجوارها الجغرافي. لقد كان المحللون السياسيون والمراقبون يعتقدون بأن ما يحدث في لبنان هو صراع طائفي ديني ومذهبي مجرد، يدور في حلقات مفرغة منذ عام 1975، لكن يبدو أن ذلك الاعتقاد غير صحيح في إطلاقه، وذلك ممن اتضح ممن ينادي به المتظاهرون من شعارات وهتافات مجتمعية جامعة، ومن خلال اللحمة اللبنانية الشاملة، والتكتل الديني والطائفي والمذهبي، الذي جمع بين اللبنانيين من كافة أطياف المجتمع، وهي تشتكي من شظف العيش، وتدعو إلى نبذ الفرقة بكافة أطيافها. ما تكشف عنه حركة الشارع اللبناني حتى الآن هو مواجهة لبنانية شعبية جامعة، تضم قوى السلام الوطني والحرية والتقدم ضد قوى الفساد السياسي والمالي والاقتصادي والمجتمعي، التي تضرب لبنان بقوة هذه الأيام، من خلال طمعها وجشعها للسيطرة على المقدرات اللبنانية كافة، وحرمان الشعب اللبناني منها.
وفي هذا السياق، فإن القوى الشعبية اللبنانية تحقق مكاسب وطنية، أهمها الوحدة اللبنانية في الصراع ضد القوى التي تعبث بالشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والطائفي والديني، وتحاول تجييره لصالحها وحدها، جملة وتفصيلاً، من خلال ممارسات عنف وإرهاب وتخويف مكونات الشعب، قد استوعبتها وفهمت معناها ومغزاها، بأنها ضرر جسيم على أمن لبنان ووحدته وسلامته ومستقبله، وعلاقته بأشقائه العرب من الخليج إلى المحيط، وما يحدث في لبنان مزيج من ردود الأفعال على الصعيد الداخلي والخارجي، ورغبة شعبية مؤكدة لإجبار النخب المتنفذة في الدولة والمجتمع، لتعديل مساراتها، والعدول عن ما هي فيه من توجهات خاطئة.
ولا شك أنه توجد صعوبات كبيرة تقف أمام اللبنانيين، لتحقيق مطالبهم الداخلية والخارجية، لكنهم مدركون أيضاً بأنهم يستطيعون تحقيق الكثير منها، فالحراك الدائر الآن ملهم كبير لهم، بأنهم قادرون على ذلك، من خلال وحدتهم الوطنية ضد قوى الشر، ويبدو أنهم في قرارة نفسهم يقولون بأن الوقت الذي تمكنت فيه قوى بعينها من الهيمنة على الشأن اللبناني قد أزف، وبأن تحويل لبنان إلى ساحة خلفية كاملة لقوى خارجية، لا تريد بلبنان ولا بأشقائه العرب خيراً قد ولى، ويجب التخلص منه مرة واحدة وإلى الأبد. ومن المسارات الأخيرة للأحداث يبدو بأنه لا توجد جهة واحدة مدعومة من الخارج، تستطيع فرض حلول للمشاكل اللبنانية، دون رضى وموافقة اللبنانيين عليها بجميع أطيافهم، فحل هذه المشاكل لن يحدث دون مشاركة اللبنانيين جميعاً فيها، وهذا ما يثبته ويؤكد عليه نطاق ومدى وحجم ونبرة صوت ونبض حركة الحراك اللبناني القائم.
*كاتب إماراتي