بعد أيام تحلّ الذكرى الثانية لقرار الرئيس الأميركي الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ولم ينعكس هذا القرار على المجتمع الدولي؛ بدليل أن الحكومات والعواصم الكبرى لم تلتزمه ولم تتمثّل بواشنطن، رغم الضغوط التي مارستها هذه الأخيرة في كل المحافل والمناسبات. وخلال العامين المنصرمين، اتخذ البيت الأبيض والخارجية مجموعة إجراءات كرّست عداء سافراً وغير مسبوق من إدارة دونالد ترامب للسلطة الفلسطينية التي ردّت بقطع كامل للاتصالات ورفض للتعامل مع أي مبادرات أميركية، وما لبث العداء أن شمل مجمل الشعب الفلسطيني، خصوصاً بقطع أي نوع من المساعدات حتى للمستشفيات، وصولاً إلى الضغط لإلغاء منظمة «الأونروا»، التي ترتبط بها شريحة واسعة من الفلسطينيين في مجالات التعليم والطبابة والتشغيل. وعشية الذكرى الثانية لقرار القدس أعلن وزير الخارجية الأميركية أن بلاده لم تعد تعتبر المستوطنات الإسرائيلية مخالفة للقانون الدولي، وهو ما درجت الإدارات كافة على اعتماده لفظياً، وليس فعلياً، منذ العام 1978.
كانت مسألة المستوطنات، ولا تزال، موضع جدل بين إسرائيل والأمم المتحدة والعديد من التكتلات الدولية، ولا سيما الاتحاد الأوروبي، التي لم يتزحزح موقفها عن اعتبار الاستيطان عموماً، مخالفاً للقوانين الدولية ولاتفاق جنيف المتعلق بالبلدان تحت الاحتلال وسلوك سلطة الاحتلال. فالاستيطان هو استيلاء بالقوة على الأرض، وعدا أنه لا يمكن أن يكون مشروعاً، فإن إصرار إسرائيل عليه وإقدام أميركا على «شرعنته» يعنيان استبعادهما أي سلام وتصميمهما على إدامة الاحتلال. صحيح أن العالم لم يتأخر في إدانة الخطوة الأميركية، إلا أن المواقف حملت هذه المرة نبرة مختلفة، فبعيداً عن الصياغات التقليدية المعلنة، كانت هناك دبلوماسية «غاضبة» لأن الأمر لم يعد مجرد سياسة قابلة للتأويل والتغيير، بل غدا نوعاً من العبث لا تقدم عليه الدول الكبرى عادةً، فهو بكل المعايير «خطأ مبرمج» و«أذى متعمّد» و«إقصاء سافر لفرص السلام» حتى لو لم تكن نشطة في المرحلة الراهنة. وفي هذا السياق جاء بيان الفاتيكان ليجدّد موقف البابا فرنسيس باعتبار «حل الدولتين لشعبين» السبيل الوحيد للتوصل إلى «حل كامل» للصراع في الشرق الأوسط، مع تأكيد «حق إسرائيل في العيش بسلام داخل الحدود المعترف بها من قبل المجتمع الدولي».
قبل أيام من القرار الأميركي، قضت محكمة العدل الأوروبية بقانونية وضع ملصق لتمييز البضائع الإسرائيلية التي تُنتج في مستوطنات الضفة الغربية المحتلة أو الجولان السوري المحتل، واعتبر المقرر الأممي الخاص بحال حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة من عام 1967 هذا الحكم «خطوة أولى مهمّة لبناء ثقافة قانونية للمساءلة عندما يتعلّق الأمر بالمستوطنات الإسرائيلية»، وقال: «على الأقل، يجب أن يكون لدى المستهلكين الأوروبيين معلومات دقيقة أمامهم عندما يتخذون خيارات الشراء». وبالطبع لقي هذا الحكم رفضاً إسرائيلياً وأميركياً، لأنه ينسف مساعي طويلة بذلت لمنع القضاء من استجابة مطالب منظمات مقاطعة منتجات المستوطنات تحديداً في أوروبا. فهذه مسألة تمسّ أيضاً بحياة المزارعين الفلسطينيين ومصالحهم، وقد دأب الإسرائيليون على ضربها بكل الوسائل. ولو لم تتأثر صادرات إسرائيل بالمقاطعة، لما سعت إلى عدم الإشارة إليها كمصدر للمنتجات، علماً بأن الحكومات الغربية لا تريد التدخل في قرار كهذا. ومع أن قرار هذه المحكمة لا يُعتبر ملزماً للشركات والمتاجر، غير أن مطالبة المستهلكين هي التي ستحدد التزامها.
يبقى أن الأهم في ردود الفعل على «الشرعنة» الأميركية للاستيطان، أنها أشاعت مزاجاً دولياً ناقماً على التلاعب بأسس التسوية المتوافق عليها والتي تشمل «حل الدولتين في حدود قابلة للحياة للشعبين»، كما وصفها مسؤول كندي بعد تصويت بلاده للمرة الأولى لصالح قرار أممي يدعم «حق الفلسطينيين في تقرير المصير». وجاء هذا التصويت كتعبير عن الرفض للخطوة الأميركية. وفي الوقت نفسه انطلق نقاش أوروبي حول الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بغية الحفاظ على «حلّ الدولتين» وحمايته. وجاءت الدعوة إلى هذا الاعتراف من جهة غير معروفة بحماس مسبق لحقوق الفلسطينيين، إذ اعتبر وزير خارجية لوكسمبورغ «جان أسلبورن» أن «على الاتحاد الأوروبي الاعتراف بدولة فلسطينية، بعدما عبرت الولايات المتحدة عن دعمها للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة». وقال إن «هذا الاعتراف بفلسطين هو اعتراف بحق الشعب الفلسطيني في دولته، وليس المقصود به مناهضة إسرائيل، بل تمهيد الطريق إلى حل الدولتين». وكانت برلمانات أوروبية عدة، أبرزها البريطاني والفرنسي، صوتت على الاعتراف بالدولة الفلسطينية في قرارات مبدئية غير ملزمة للحكومات التي فضّلت دائماً التريث لإعطاء «جهود السلام» الأميركية فرصة كاملة، لكن قرارات إدارة ترامب خيّبت الآمال.