في ظرفين قاسيين، زمانيٌ عام 1919، ومكانيٌ بقرية الملقى، من ضواحي مدينة الدرعية، عاصمة الدولة السعودية الأولى، التي اتصلت اليوم، بعاصمة السعودية، الرياض، وُلِدَ عالمٌ سعوديٌ جليلٌ، لا زَالَ العبادُ والبلادُ، يقطفونَ ثمارَ، زَرعِه العِلميٍ، ونِتَاجَهُ الفكري.. ذلكم هو الشيخ عبدالله بن محمد بن خميس، رحمه الله، العالمُ، العلّامةُ، والأديبُ الأريبُ.
درج الشيخُ في أرضٍ محفوفةٍ بالأشواكِ، نحو فَكِ الحَرفِ، في رحلَةِ الشغَفِ باللُغَةِ، إلى درجةِ عِشقِها، وتَشَوُفِ المعَارِفِ، بُغيَةَ النهل من معينها... لم يكن لهذه الغايةِ من خيارٍ، آنذاك، غير الكتاتيب، فقصدَ كتاتيب الدرعية، فتَعَلَمَ القراءَةَ، والكِتابَةَ، والحِسابَ، ثم لازمَ والِدَهُ، وكان على جانبٍ من العِلمِ، فتلقى عنهُ الفنونَ الأوليةَ المتاحةَ، وما تيسرَ من عُلومِ الآلةِ، وقرأَ عليهِ، كُتبَ ابن تيمية، وابن كثير، وابن القيم، وكُتُبَ التاريخِ، واللغةِ، والأدبِ.
عانى، ابن خميس، مثل غَيرِهِ، من أقرانِهِ، ومُجايِليِهِ، من شَظَفِ العَيشِ، وصُعُوبَةِ الحياةِ، يوم كانت المَشَقَةُ، السِمَةَ الأبرزَ، لمعيشة الناس بالجزيرة العربية، آنذاك.
يقولُ العلامةُ الراحلُ: «لم أذكر يوماً من الأيام، أننا شبعنا من خشن العيش (أي رديء القمح)، ودقل التمر(أي رديئه)!».
التحق بدارِ التوحيدِ بالطائفِ، وحصل على شهادتها، ثم تخرج في كلية الشريعة واللغة، بمكة المكرمة، عام 1953.
وفي استعراض ذكرياتهِ، وكتابهِ «شؤون وشجون»، يرصد صلاح الزامل، بدايات الشيخ، فيقول:«ويكتب عبدالله بن خميس بداياته في العمل الوظيفي في الدولة وهو لايزال شاباً غضاً طرياً، حيث انضم إلى حملة السلاح في الجندية، وكانت هذه المجموعة قد اقتيد منها أناس من أهل الدرعية، وشاء الله أن يتخلف شخص ويحل مكانه ابن خميس، فكانت هذه الرحلة إلى حائل هي الانطلاقة الأولى لأن يطوِّر أبجديات التعلم ومبادئ القراءة والكتابة، فقد كان قبل هذا قد تعلم القرآن الكريم في الدرعية وأبجديات القراءة والكتابة، وإذا أراد الله جل وعلا للمرء شيئاً هيأ له أسبابه، فابن خميس لم يكن يفكر في الاستزادة وتعلم القراءة والكتابة والحساب، إنما أراد أن يلتحق بالجندية لأجل لقمة العيش والكفاف، حيث وصل إلى حائل ودخل مدرسة سليمان بن سكيت - رحمه الله - الذي توسم في الشيخ ابن خميس شيئاً من النجابة، كما يقول كاتب المذكرات».
وقد أجادَ، الأديبُ السعودي الراحل، عبدالله نور(1940-2006)، في وصفِ الشيخ ابن خميس، بأنه: «رجلٌ شاسعٌ، مثلَ صحراءِ الجزيرةِ العربيةِ الشاسعةِ، وعميقٌ مثلَ ليلِ الصحراءِ، ومُتلألئٌ، مِثلَ نُجُومِها».. «أديبٌ في الدَرسِ، والنَفسِ، وشاعِرٌ عِملاقٌ، وعالمٌ في الفَلَكِ، والُلغَةِ، والعَروضِ، والإِنسانِ، وتَقوِيمِ البُلدانِ، وجُغرافية الجزيرةِ العربيةِ»، وأكد نور، أن ابن خميس: «ذاكرةٌ أسطوريةٌ».
الدكتور عبدالرحمن الشبيلي، ألفَ كتاباً، عن الشيخ، عنونه بـ:(عبدالله بن خميس في حوار تلفزيوني توثيقي عام 2008)، وقال فيه: (بدأ ابن خميس في الخمسينيات من القرن الماضي يسطع نجمه أديباً وباحثاً وشاعراً، يحتل مقعداً موسوعياً بامتياز بين علماء العربية، متخصصاً في بحوث الجزيرة وجغرافيتها وفي تراثها الشعبي، يشارك في المؤتمرات والندوات وعضوية المجامع، وكانت صحيفته «الجزيرة» اسماً على المسمى، منصة لرأيه النزيه، ومنبراً لقلمه الحر، ومخزناً لأبحاثه العلمية الرصينة، ومعرضاً لفكره المستنير، جمع فواتحها في كتاب من أنفس كتبه وهو «من جهاد قلم» في جزأين. وقد تحولت صحيفته من الامتياز الفردي إلى مؤسسة جماعية أهلية (1963) فاستمر بمنزلة الأب الروحي لها ولم يتخلف عن اجتماعات مجلس الإدارة والجمعية العمومية).
تركَ ابن خميس، غفر الله لهُ، مؤلفاتٍ ثريةٍ، منها: «معجم اليمامة»، في جزأين، و«من القائل؟»، بأجزائه الأربعة، و«تاريخ اليمامة»، بسبعة أجزاء، ومعاجم عن أودية الجزيرة وجبالها، ودواوين شعرية. وكتبَ الشعر النبطي، والفصيح، وخاض غمار أدب الرحلات.
ولم يكن إنتاجه الفكري، مُقتَصِراً على فنٍ واحدٍ، بل جالَ في جملة فنونٍ، كاتباً، وباحثاً، ومُؤرِّخاً، وشاعراً، وأديباً، وصحافياً. ومارس أعمالاً إدارية في القضاء، والتعليم، ومصلحة المياِه، والمواصلات، إلى أن طلبَ، في 1972، من الملك فيصل بن عبدالعزيز، رحمه الله، التَفَرُغَ للعِلمِ، والأدبِ، بحثاً، وتنقيباً، وكتابةً، وتدويناً، وما زالَ كذلك، حتى رحل لرحمة ربِهِ، العام 2011.
يقولُ الشبيلي، إن ابن خميس: (يُريحُ الباحث من عناء العودة إلى قواعد المعلومات وكشافات الدوريات، إذ جمع معظم أبحاثه ومقالاته في سلسلة كتابه: «من جهاد قلم»، الصادر في ثلاثة أجزاء، في مجال الكتابات الأدبية النقدية، والبحوث والمحاضرات، وفي «فواتح الجزيرة»، أي مقالاتها الافتتاحية، التي ربما تتفوق، أو في الأقل، تماهي ما يطرح الآن، في جرأته والتزامه بالموضوعية، حيث يظل كتابه: «فواتح الجزيرة»، رغم مرور أكثر من عقدين على صدوره، يزداد قيمة وشأناً، وإن كان لا يتضمن كل المقالات، التي نشرها في مجلته، بسبب جرأتها).
ومن الجميلِ، ما نَقَلَته، كريمة العلاّمة الراحِلِ، عن نَمطِ حياةِ والدِها بمنزِلِهِ، إذ تقول، الروائية، والكاتبة المميزة، أميمة بنت عبدالله الخميس: «لربما اختار نجم سعدي (والدها)، أن أكونَ مُطَوَقَةً بهذا المناخِ، وهذه الفضاءاتِ... أن أُولدِ وحَولِيَ على مرمى النظرِ، أحرفٌ ومفرداتٌ، ويَتَبَرعَمُ الوعيُ على الجُدرانِ، التي تُرصفُ فيها الكُتبَ، من الأرضِ حتى السقفِ، ونَكهَةُ الأُمسياتِ التي كانَ يَقضِيها أبي وأمي، تَحتَ شَجرةِ ياسمين، في الحديقةِ المنزليةِ، وهُما مُنهمِكَانِ في مُراجَعَةِ كِتابٍ».
لم تنثن هِمَةُ ابن خميسٍ، عن الأعمال الريادية الكبرى بالسعودية، فدفعهُ عِشقهُ لبلادِهِ، إلى التأمل في أرضها، محاولاً اجتلاء مكنونها الباذخ، فكتب عنها ودوّن. سحرهُ جبلُ طويق... جبل اليمامة الشهير: «هذا الجبل العظيم البارز الممتد ما بين الربع الخالي جنوباً، والزلفي وما حوله شمالاً»، فَدبّجَ فيه قصيدةً فذةً، منها:
يا جاثماً بالكبرياءِ تسربلا
هلا ابتغيتَ مدى الزمانِ تحولا
شابَ الغرابُ وأنتَ جلْدٌ يافعٌ
ما ضعضعتْ منك الحوادثُ كاهلا
ترنو إلى الأجيالِ حولك لا تني
تترى على مرِّ العصورِ تداولا
مثل الضيوفِ المعتفينَ فقادمٌ
ألقى بكلْكَلهِ وذاك تحملا
تنتابُهم سودُ الخطوبِ عواتيا
وتمرُّ أحقابُ السنين جوافِلا
وأراكَ معتدِلَ المناكبِ سامقاً
تبدو بك الشُمُّ الرِعانُ مواثلا
من التخصص الشرعي، للغوص في فنون الأدب، فالكتابات التاريخية التوثيقية، إلى الصحافة، وكتابة الرأي... رحلةٌ، ثريةٌ، عميقةٌ، غنيةٌ، ومتألقةٌ، تقلبها الشيخُ، العلاّمةُ، عبدالله بن خميس، أنزل الله عليه شآبيبَ الرحمةِ، وهي تُلَخِصُ كِفَاحَ عالمٍ كبيرٍ، وأستاذ أجيالٍ، وباحِثٍ موسُوعِيٍّ، ومؤرخٍ مُتقِنٍ ثبَتٍ، رَحَلَ، ولم ترحل ذِكراهُ العَبِقَةُ، ومؤلفاته البديعة، التي كَتبها رَجلٌ واحدٌ، ولو تطلع أحدٌ لإصدارِ مثلها، اليوم، لما أمكنهُ ذلك، دونَ فريقٍ كبيرٍ، من الباحثين المختصين!