في نهاية سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضي ثار جدل أكاديمي حول انتقال بؤرة الصراع في الشرق الأوسط من المشرق العربي، حيث الصراع العربي الإسرائيلي الممتد إلى منطقة الخليج التي أهّلتها تطورات جذرية لكي تكون بؤرة جديدة للصراع. واحتدم الجدل بين أصحاب نظرة يمكن وصفها بالمثالية القومية رأوا أن الصراع العربي الإسرائيلي لا يجب أن يتزحزح عن صدارة صراعات المنطقة باعتبار إسرائيل التهديد الأساسي للأمن العربي، وبين واقعيين ركزوا على أن الدراسة العلمية للعلاقات الدولية تتحدث عما يحدث على أرض الواقع وليس عن تفضيلاتنا الذاتية. فثمة ثلاثة تطورات بالغة الأهمية وقعت خلال النصف الثاني من السبعينيات أهّلت منطقة الخليج لكي تصبح البؤرة الساخنة لصراعات تطغى على الصراع مع إسرائيل: التطور الأول هو التسوية السلمية بين مصر وإسرائيل والتي انتهت بتوقيع معاهدة للسلام بينهما عام 1979. والثاني هو الطفرة في أسعار النفط واستخدامه سلاحاً في حرب أكتوبر 1973، مما جعل القوى الكبرى تركز أنظارها على منطقة الخليج بعد أن تجمعت لدى دولها أسباب قوة تجعلها مؤثراً حقيقياً في التفاعلات السياسية الدولية. والثالث هو الثورة الإيرانية عام 1979 والتي حولت إيران من «مخلب قط» للسياسة الأميركية في الخليج إلى محرّض على الثورات، مما ينذر بتوترات وصراعات قادمة.
وعبر الزمن أثبتت التطورات أن وجهة النظر التي ذهبت إلى انتقال بؤر التوتر والصراعات إلى الخليج صحيحة بصفة عامة، فرغم أن التفاعلات الصراعية بين إسرائيل والدول العربية لم تتوقف فإنها لم تأخذ شكل الحروب الكبرى كما في عدوان 1967 أو حرب أكتوبر 1973، وإنما اقتصرت على عمليات قمع إسرائيلية لأي محاولة فلسطينية للمقاومة، وعمليات عسكرية ضد لبنان (1982 و2006)، فضلاً عن المواجهات التي انتهت بانسحاب إسرائيل من الشريط الجنوبي عام 2000.. بينما تقدّمت خطى عملية التسوية السلمية للصراع العربي الإسرائيلي، بمعنى قبول العرب خيار التسوية السلمية كما في مبادرة فاس 1982 وبيروت 2002، فضلاً عن توقيع اتفاقية أوسلو 1993 ومعاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية (وادي عربة) عام 1994، فلو قارنا هذا بما شهدته منطقة الخليج لوجدنا أطول حرب نظامية بعد الحرب العالمية الثانية، أي الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات (1980-1988)، ثم الغزو العراقي للكويت عام 1990 وما ترتب عليه من تداعيات أهمها دخول المكون العالمي في معادلة الأمن القومي العربي، وأخيراً وليس آخراً الغزو الأميركي للعراق عام 2003 والذي أدى إلى تفكيك الدولة والمجتمع في العراق وقدمه على طبق من ذهب لقوى إقليمية أصبح لها منذ ذلك الحين نفوذها على السياسة العراقية.
لكن ربما أصبحنا الآن بمرحلة جديدة أضحى فيها الشرق الأوسط برمته بؤرة واحدة لصراعات خطيرة يمكن لا قدر الله أن تكون مدمرة إذا لم تُحسَن إدارتها، ويعود ذلك إلى عوامل عربية وإقليمية وعالمية. فعربياً وقعت أحداث ما عُرف باسم «الربيع العربي» الذي انتهى إلى صراعات ملتهبة في سوريا وليبيا واليمن، صراعات سمحت لقوى عالمية وإقليمية بالتدخل على نحو أدى لتأجيج هذه الصراعات، كما نشاهد الآن في ليبيا تحديداً. وعلى الصعيد الإقليمي تواصل بعض قوى الجوار العربي محاولاتها لتحقيق النفوذ وفرض الهيمنة على المقدرات العربية، كما يظهر مثلاً من محاولاتها الرامية لشق طريق إلى شواطئ المتوسط عبر العراق فسوريا فلبنان، وإيجاد موطئ قدم على شواطئ البحر الأحمر بفضل الانقلاب الحوثي في اليمن، وكما يبدو واضحاً من السياسات التركية العدوانية في كلٍ من سوريا والعراق وصولاً إلى ليبيا. وإذا كان أردوغان يتذرع بالاعتبارات الأمنية في سوريا والعراق فإن إخفاء أطماعه الاقتصادية مستحيل في الحالة الليبية. أما القوى العظمى والكبرى فلسنا بحاجة للحديث عن وجودها المؤثر في بؤر الصراع في المنطقة، وهو وضعٌ يتطلب من النخبة العربية الاستراتيجية والسياسية إمعان النظر فيه قبل أن تتداعى التطورات على نحو بالغ الخطورة على الأمن العربي.