بعد أكثر من 15 عاماً قضاها في بريطانيا ودفعه للضرائب وتحدثه «إنجليزية جيدة»، يشعر الطاهي البولندي داميان فافزنياك الآن أنه أصبح منبوذاً. فقد رفضت السلطات طلب تجديد إقامته الدائمة في بريطانيا، رغم أنه عمل طاهياً للأسرة الملكية البريطانية وكان من كبار الطهاة في أولمبياد لندن. وقال الرجل البالغ من العمر 39 عاماً: «أنفقت من شبابي في المملكة المتحدة أكثر مما أنفقت في بولندا، وفجأة شعرت بأنني مواطن من الدرجة الثانية».
ووصول هذا المواطن البولندي إلى هذه الحالة في بريطانيا، يعد من النتائج الجانبية لمسعى الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي (بريكسيت). وهو واحد من ملايين الأوروبيين الذين عاشوا وعملوا بسهولة بين دول التكتل الثماني والعشرين متمتعين بأحد أساسيات الاتحاد الأوروبي المتمثل في حرية حركة الأفراد. لكن بريطانيا تستعد هذه الأيام للخروج من الاتحاد الأوروبي ودخول مرحلة انتقالية تستمر 11 شهراً، ولذا تقترب حرية حركة الأفراد من النهاية.
وعلى مدار أربعة عقود، كان بوسع سكان أوروبا الانتقال بين مدن التكتل دون إجراءات إدارية ولا تأشيرات ودون الحاجة إلى عرض عمل. كان كل المطلوب شراء تذكرة السفر. وكانت حرية العمل إلى جانب حرية انتقال البضائع ورأس المال والخدمات، من أكبر وأجرأ أفكار معاهدة روما لعام 1957.
لقد كانت مغامرةً جسوراً أن تستطيع الشعوب التي مزقت بعضها في حربين عالميتين وتتحدث عشرات اللغات أن تتنقل عبر قارة بلا حدود. لكن الداعين إلى بريكسيت دفعوا بفكرة أن على بريطانيا «استعادة السيطرة» على حدودها. وزعم مؤيدو بريكسيت أن الأوروبيين وخاصة من الدول الأفقر في الحافة الشرقية للتكتل، ينتزعون فرص العمل البريطانية ويرهقون الخدمات الاجتماعية.
ومازال بوسع مواطني الاتحاد الأوروبي الانتقال بحرية في فترة الانتقال قبل الخروج حتى ديسمبر على الأقل. لكن بعد ذلك، سيتعين عليهم التقدم بطلب للتمتع بهذه الحرية، ولن يحظوا بأفضلية على سكان القارات الأخرى. وتحدث رئيس الوزراء بوريس جونسون عن نظام «قائم على نقاط» شبيه بذاك المعمول به في أستراليا ينتقي الأفضل. وسيتم تقليص عدد المهاجرين قليلي المهارات بشكل كبير. كما سيتعين على مواطني الاتحاد الأوروبي التقدم بطلبات إذا أرادوا البقاء في بريطانيا التي يصفها بعضهم بأنها ديارهم منذ عقود. وإذا لم يسجلوا طلبهم بحلول يوليو 2021، فسيصبحون في حكم المقيم في البلاد بشكل غير قانوني.
ويعتقد الطاهي البولندي أن هذا غير عادل، وتقدم بالتماس دعا فيه إلى تسوية تلقائية لكل مواطني الاتحاد الأوروبي وأسرهم الذين يعيشون بالفعل في بريطانيا. ويشير المدافعون عن القضية إلى أن هناك نحو 3.6 مليون من مواطني الاتحاد الأوروبي مقيمين في المملكة المتحدة. وبإضافة الأشخاص الذين يعولهم هؤلاء، يصبح الرقم نحو خمسة ملايين. والطاهي البولندي شخصياً، سيكون في وضع جيد لأنه بعد أن انتشرت تغريداته على تويتر على نطاق واسع، اتصل به مسؤولون وأقروا بوقوع خطأ ونقلوه من «وضع قبل التسوية» إلى «وضع التسوية». لكنه يشعر بالقلق على الآخرين الذين بلا شبكة كبيرة مثله على مواقع التواصل الاجتماعي.
ونفت حكومة جونسون المخاوف. وأنشأت مصلحة الهجرة التابعة لوزارة الداخلية تطبيقاً على الهواتف المحمولة يمكن مواطني الاتحاد الأوروبي من التقدم بطلب تسوية الأوضاع على الإنترنت. والوزارة تمضي قدماً في تقديم رد سريع لمعظم المتقدمين. وتقدم حتى الآن 2.8 مليون شخص بطلبات. ومن بين 2.5 مليون شخص تلقوا رداً، حصل 58% منهم على وضع التسوية وحصل 41% على وضع ما قبل التسوية، مما يعني أنه سيتعين عليهم إعادة التقدم بطلب في غضون خمس سنوات. وإجمالاً، لم يُرفض صراحة إلا طلبات ستة أشخاص غالباً بسبب سجلهم الجنائي.
لكن لوك بيبر، محامي الهجرة الذي يقدم النصح للمدافعين عن حقوق مواطني الاتحاد الأوروبي، حذر من أن مجرد رفض 5% فقط من مواطني الاتحاد الأوروبي سيمثل أكثر من 100 ألف شخص. ومن الأسئلة التي تلوح في الأفق: ماذا يحل بهؤلاء الذين يفوتهم الموعد النهائي؟ وذكرت الحكومة أن من سيقدم أسباباً معقولةً لفوات الموعد النهائي، سيحصل على فرصة أخرى للتقدم بطلب. والمدافعون عن حقوق مواطني الاتحاد الأوروبي قلقون بشكل خاص على كبار السن وصغارهم وأصحاب الأوضاع الصحية الهشة. فهل سيرفض أصحاب العقارات تأجير المساكن لهم؟ وهل سيُمنعون من الحصول على خدمات الرعاية الصحية القومية؟ وربما يحدث هذا بعد شهور. لكن حتى في الوقت الحالي، يشعر مواطنو الاتحاد الأوروبي بالقلق.
فقد رصدت إيلينا ريميجي- البالغة من العمر 51 عاماً التي جاءت من إيطاليا إلى إيرلندا وبريطانيا لتجمع الشهادات- شعوراً لدى مواطني الاتحاد في المملكة المتحدة بـ «الخيانة» لأن القواعد التي أقاموا حياتهم عليهم يشعرون أنها سحبت منهم. والشعور نفسه منتشر لدى بعض ما يقرب من 1.4 مليون بريطاني يعيشون في أوروبا. ومن أمثال هؤلاء، كارول-آن ريتشاردز (53 عاماً) التي تعيش في إيطاليا منذ 15 عاماً وتسافر كثيراً عبر أوروبا لأداء عملها كمستشارة. وأوضحت ريتشاردز أن بريكسيت سيكون له تأثير سلبي على عملها وحياتها الشخصية بسبب تقييد حرية الانتقال.
وتشعر آنا آماتو (57 عاماً) بـ «الإهانة». فقد جاءت من إيطاليا إلى بريطانيا وهي تبلغ من العمر 18 شهراً فقط. واستقرت في بريستول في انجلترا وتزوجت بريطانياً ولديها طفلان بريطانيان. وفي عام 2017، بعد الاستفتاء على بريكسيت، قررت الحصول على الجنسية البريطانية. لكن المسؤولين طلبوا منها التقدم أولاً بطلب للحصول على الإقامة الدائمة، لكنها لم تحصل عليها. ورغم أن وزارة الداخلية ذكرت أنها تتواصل مع أماتو، لكنها لم تحاول التقدم بطلب آخر، بناء على برنامج وضع التسوية الذي تم العمل به العام الماضي. وقالت أماتو إنها طالما شعرت بأنها بريطانية وهي فخورة بذلك، لكن الآن «يخبرونني أنهم لا يريدونني».

كارلا آدم
مراسلة واشنطن بوست في لندن
وليام بوث
مدير مكتب «واشنطن بوست» في لندن.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»