لا جرم على المقيمين في الكرملين إذا تخيلوا أنهم يسمعون ضحكات تشفٍ مكتومة قادمة من واشنطن. فلا بد أن مسؤولي إدارة ترامب يشعرون ببعض الشماتة وهم يشاهدون نظراءهم في موسكو يصارعون المأزق المألوف تماماً للبنتاجون والنهاية غير الواضحة له، والمتمثل في كيفية التعامل مع زعيم مثل رجب طيب أردوغان. وربما يقر المسؤولون الروس أصحاب العقلية الأكثر ميلا للتفلسف أن التحول عادل تماماً. فمنذ سنوات وهم يشيرون ويضحكون في الوقت الذي يوتر فيه الرئيس التركي علاقات بلاده مع الولايات المتحدة ويذيع خطاباً عدائياً ضدها، ويتصرف أيضاً بطريقة استفزازية ضد حلفاء أميركا.
ولربما عدوانية أردوغان تجاه الولايات المتحدة، بالنسبة لروسيا، تفيد في إضعاف حلف شمال الأطلسي (ناتو) وتحقيق صفقات اقتصادية مربحة مع تركيا، من مبيعات العتاد العسكري إلى خطوط أنابيب الغاز. وصمتت روسيا، كما فعل الرئيسان الأميركيان باراك أوباما ودونالد ترامب، عن خطاب أردوغان العدائي ضد حلفاء روسيا مثل الرئيس السوري بشار الأسد ورجل ليبيا القوي خليفة حفتر.
أحبطت تصرفات أردوغان طموحات الزعيم الروسي أو عقدتها بشكل كبير، وهذا ما ظهر خلال عملية غزو عسكري تركي لشمال غرب سوريا. وتقف القوات التركية والمرتزقة الأتراك الآن في طريق سيطرة خليفة على طرابلس الليبية. ومن قبل، استفز أردوغان واشنطن باحتضانه الذين يتبنون شعار «الموت لأميركا» سواء كانوا النظام الحاكم في طهران، أو قيادة حركة حماس أو جماعة الإخوان المسلمين. والآن يتبع أردوغان النهج نفسه مستفزاً موسكو بشعار «المجد لأوكرانيا!» في زيارته في الآونة الأخيرة إلى كييف. وأصبحت عبارة «المجد لأوكرانيا» شعار المقاومة ضد الهيمنة الروسية، منذ ضم بوتين لشبه جزيرة القرم عام 2014. وتدعي موسكو وأبواقها أن الشعار نازي.
والروس يكتشفون، كما اكتشف الأميركيون والأوروبيون من قبلهم، أن الأمور في ظل تواجد أردوغان تصل دوماً إلى أزمة يصحبها تهديدات بإنهاء التحالفات. وبوتين يجد نفسه الآن الطرف الذي تمسك الأزمة بتلابيبه. وفي مكالمة هاتفية في الآونة الأخيرة، حذر أردوغان أن تركيا قد تتصرف «بأقسى طريقة»، إذا تعرضت القوات التركية في سوريا لمزيد من الهجمات من الجيش السوري. وبالطبع، فقد حذر من أن العلاقات الروسية التركية قد تتفرق بها السبل بشأن سوريا. والدماء تسيل حالياً في الجانبين. فقد صعدت القوات السورية هجماتها على المواقع التركية في أدلب مما أدى إلى مقتل عدد من الجنود الأتراك. وأعلنت روسيا أن بعض جنودها قتلوا في هجمات من مواقع تركية. وقُتل مئات السوريين من الجنود والمدنيين، على السواء، في القتال المتصاعد، واضطر عشرات الآلاف إلى الفرار من المنطقة، مما خلق أزمة لاجئين جديدة.
وخيارات بوتين في التعامل مع أردوغان محدودة. فتركيا شريك اقتصادي كبير محتمل لروسيا، والزعيمان يريدان تعزيز التجارة التي يبلغ حجمها الآن نحو 30 مليار دولار- حتى تبلغ 100 مليار دولار بين البلدين. وعضوية تركيا حيوية لآمال روسيا في سبيل صمود المنظمات متعددة الأطراف في القوقاز ووسط آسيا. وبالطبع يريد بوتين إذكاء عدم اليقين في الناتو بشأن التزام تركيا تجاه الحلف. وأردوغان يعلم بكل هذا. وإذا استرشدنا بتعامل أردوغان السابق مع الولايات المتحدة وأوروبا، فيمكننا أن نستنتج أنه سيواصل الضغط على روسيا للحصول على تنازلات في سوريا وليبيا، وربما في مناطق أخرى.
فهل تستطيع واشنطن الاستفادة من هذه الأوضاع، كما فعلت روسيا من قبل حين توترت علاقات تركيا بالولايات المتحدة؟ ربما يحدث هذا، لكنه يتطلب تصدى بوتين لأردوغان وأن يبدي الزعيم التركي بعض الاهتمام في العودة إلى معسكر الغرب. ولا يظهر ما يدل على هذا الآن. لكن إذا بلغنا هذه المرحلة، سيتعين على الولايات المتحدة أن تبدي مهارة دبلوماسية من طراز رفيع- أعلى مما مارسته في السنوات القليلة الماضية- كي ينتظم أردوغان في الصف من جديد. أما في الوقت الحالي، فيستطيع المسؤولون الأميركيون أن يفرحوا في هدوء باكتشاف بوتين لما تعنيه صداقته مع أردوغان.
*كاتب أميركي متخصص في شؤون الشرق الأوسط والعالم الإسلامي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»