يبدو‎ أن معارك الرئيس الأميركي دونالد ترامب الداخلية لم ولن تنته في الأمد القريب، ذلك أنه ما انفك ينتهي من محاكمته في مجلس «الشيوخ» ويحصل على براءة بشكل أو آخر وفرتها له الأغلبية «الجمهورية»، إلا وبدأ معركة جديدة من خلال الميزانية المالية المقترحة للعام القادم، والتي تشمل نفقات بقيمة 4.8 تريليون دولار. ما السبب الإشكالي في تلك الموازنة الجديدة؟
الثابت‎ أن أحداً غير قادر على تفهم عقل الرئيس ترامب وما يدور في داخله، وهل له دالة على السلم العالمي، أم أن طريق الحروب أقرب إلى قلبه، ثم كيف يكون ذلك وهو من يسعى إلى إرجاع القوات المسلحة الأميركية من مناطق بعينها حول العالم كالشرق الأوسط، درءاً للنفقات وحقناً لدماء الأميركيين، ومن جهة أخرى يوسع دائرة الإنفاق المسلح على حساب بنود أخرى كفلت للولايات المتحدة الأميركية حضورها حول العالم ذات مرة عبر النصف قرن الأخير؟
باختصار‎ ما جرى يتمحور حول زيادة رقم المخصصات المالية المطلوبة لبند الدفاع والقوات المسلحة إلى 740.5 مليار دولار، وفيما يأمل تخفيض النفقات غير الدفاعية الأخرى لتصل إلى 590 مليار دولار.
والشاهد‎ أن نظرة فاحصة لبنود الموازنة الجديدة يخلص منها المرء إلى أن أميركا ترامب تعود مرة جديدة إلى إشكالية تضاد التوجهات في الروح الأميركية الواحدة، فالرئيس الذي يسعى على سبيل المثال لتقليص الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، كما الحال في العراق وسوريا، أي الأماكن التي وصفها بأنها لا تحتوي إلا على الرمال والموت، هو من يدعم المجمع الصناعي العسكري الأميركي وجنرالات البنتاجون بالمليارات اللازمة لمواجهاتهم القائمة والقادمة.
على‎ أن زيادة بند الإنفاق الدفاعي يقابله على الجانب الآخر خفض في المساعدات الخارجية الأميركية لدول العالم بنسبة 21%، فقد طلب تخصيص 44.1 مليار دولار في السنة المالية الجديدة لما تقدمه أميركا للعالم، بعدما كان الرقم 55.7 في ميزانية السنة المالية 2020 الحالية.
ينبغي‎ الإشارة هنا إلى أن فكرة المساعدات الخارجية الأميركية لا تخلو من ملمح وملمس براجماتي، فأميركا لا تعطي ذات اليمين أو ذات اليسار صدقة أو محبة وكرامة، وإنما في إطار تحقيق منافع عليا ومصالح كلية أشمل وأوسع من حفنة الدولارات، وهو ديدنها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية واشتداد أورا المعركة مع حلف وراسو، فقد كانت تلك المساعدات طريقاً لتحقيق ولاءات بعينها في أزمنة الجفاف المالي والأيديولوجي معاً وعلى السواء.
إلا‎ أن علامة الاستفهام التي تطل برأسها لماذا يسعى ساكن البيت الأبيض إلى تعظيم بنود الحرب على مرتكزات الإنفاق من أجل السلام وكسب الحلفاء؟
‎ من الواضح جداً أننا على حدود معركة كبرى بين الولايات المتحدة الأميركية من جهة، والصين وروسيا من جهة ثانية، ومن هذا المنطلق والمفهوم تم بث قبلة الحياة من جديد في حلف «الناتو» خلال مؤتمره الأخير في العاصمة البريطانية لندن ، وقبل نهاية العام الفائت.
مرة‎ أخرى نشير إلى أن من يقرأ بنود الموازنة الأميركية الجديدة التي يقترحها الرئيس ترامب يصاب باضطراب من جراء الاقتطاعات الداخلية لحساب البرامج الخارجية المرتبطة بالدفاع. على سبيل المثال أن الموازنة وفي طريقها لتخفيض عجز الموازنة، إذ ذلك الهدف الذي يسعى إليه «الجمهوريون»، يتخذ إجراءات تنعكس بالسلب على حياة الأميركيين أنفسهم، فهناك 135 مليار دولار سوف يتم توفيرها من خطة إعادة تسعير الدواء، ما يعني أن دعماً بعينه لأدوية بذاتها سوف يلغي أو يخفض، وهناك 292 مليار دولار استقطاعات من برامج الأميركيين الفقراء مثل كوبونات الغذاء والمساعدات الطبية للفقراء.
هل‎ تجعل مثل تلك الاختصامات أميركا دولة عظيمة من جديد كما ينادي أو يتطلع ترامب؟ من‎ الواضح أن الرجل مهموم ومحموم بقضايا عسكرة البر والبحر والفضاء، وإنْ اتخذ أكثر من ستار يداري أو يواري به أهدافه الحقيقية، وفي المقدمة منها إحياء برامج حرب الفضاء من جديد، وليس سراً القول إن الكثير من برامج وكالة «ناسا» تتناغم مع رؤية أميركا لبسط مظلتها من الأسلحة العجيبة والغريبة في الفضاء الخارجي، ما يوفر شبكة حماية وأمان لأميركا. هنا‎ تقترح ميزانية ترامب زيادة قدرها 3 مليارات دولار للوكالة المشار إليها، بذريعة العمل على إعادة رواد الفضاء الأميركيين إلى القمر وتالياً إرسالهم إلى المريخ.
والثابت‎ أنه ما أن أُعلن عن الميزانية الجديدة إلا وجاء الاعتراض من «الديمقراطيين» سريعاً جداً وكانه كان ينتظر خلف الباب معركة انتقامية من ترامب الذي أصابهم بعطب كبير مرتين، خلال قضية «روسيا- جيت»، وأوكرانيا، فقد سارعت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى مهاجمة مشروع الموازنة، واتهمت ترامب بعدم الاكتراث بمصالح العائلات الأميركية أو المصالح العليا للولايات المتحدة الأميركية.
ويبقى‎ السؤال المهم: هل يمكن أن يصيب اهتمام ترامب ببنود الحرب شعبيته في الداخل الأميركي وهو على عتبات انتخابات رئاسة 2020؟ لا تزال‎ المعركة طويلة والليالي الأميركية دوماً حبلى بالمفاجآت.
*كاتب مصري