برؤيته الثاقبة وحكمته الفطرية، أدرك المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه»، منذ وقت مبكر، الوضع الخاص لطبيعة بيئة ومناخ الإمارات، وتنبّه بحكم خبراته في التعامل مع صحرائها وبحرها، وشغفه باستكشاف ما تضمه من ثروات، وما تمنحه لإنسانها من خيرات، إلى أهمية المحافظة على التوازن الطبيعي والبيئي فيها، والعمل الجاد والمخلص لاستدامة مصادرها، على نحو يخدم الأجيال الحاضرة، ويحافظ على رصيد آمن للأجيال القادمة.
فلسفة الشيخ زايد ورؤيته في هذا الإطار، حوّلتا دولة الإمارات خلال فترة قصيرة بمقياس الأعمار الزمنية للدول، إلى نموذج عالمي في التخطيط بعيد المدى في المجال المناخي والبيئي، وتبني المبادرات والمشاريع التي تحدّ من آثار الأنشطة الإنسانية وانعكاساتها على الطبيعة، سواء في البر أو البحر، وحققت ما رآه العلماء والخبراء والمختصون ضرباً من المستحيل والخيال، فحوّلت مساحات شاسعة من رمال الصحراء الممتدة إلى واحات وغابات تموج بالخضرة، وأخرجت من دائرة الخطر الكثير من الأنواع البرية والبحرية التي كانت مهددة بالانقراض والفناء، لتصبح عقب هذه النجاحات الباهرة نهجاً إماراتياً ثابتاً، أسهمت من خلاله الدولة في إيجاد الحلول الناجعة للعديد من المشكلات ذات العلاقة بالتغير المناخي والتدهور البيئي.
وضمن هذا النهج، لم تكتف الدولة بالتعامل مع الواقع ومعطياته، وابتكار الحلول التي تضمن توازن أدائها البيئي، والمساهمة الفاعلة في مساعي العالم للحد من آثار التغير المناخي، على مختلف جوانب الحياة على هذا الكوكب، بل ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، حينما تبنت نموذجاً استشرافياً بعيد المدى، تسعى من خلاله إلى الاستفادة من معطيات الحاضر ومقارنتها بالماضي، والربط فيما بينها على أسس وقواعد علمية، تساعد في استقراء المستقبل على المديين القريب والبعيد، وتوقع ما يمكن أن يطرأ على الصعيدين البيئي والمناخي من تطورات وتغيرات سلبية أو إيجابية، ومن ثم المبادرة إلى وضع الحلول الاستباقية، التي تخفف من الآثار السلبية، وتدعم النتائج والتطورات الإيجابية.
الدراسة التي أجرتها وزارة التغير المناخي والبيئة، حول تقييم المخاطر المناخية وتدابير التكيف، تمثل نموذجاً حياً ومتميزاً للجهود الإماراتية في مجال استشراف مستقبل المناخ والبيئة، ومرجعاً مهماً لكل الجهات والمؤسسات البحثية والفنية، التي يمكنها الاستفادة من نتائج تلك الدراسة، في تطوير الحلول الفعالة التي تمكّن دولة الإمارات من التعامل بسهولة مع تلك المخاطر، والحد من آثارها على حاضرها ومستقبلها، بالإضافة إلى أنها ترفد الجهود الدولية للحد من آثار التغير المناخي بمعلومات علمية تخصصية، يمكن الاستفادة منها في إيجاد الحلول المنشودة للمشاكل التي يعانيها الكوكب، نتيجة التلوث بمختلف أشكاله ومستوياته.
لقد كشفت الدراسة عن 10 مخاطر مناخية تواجه الإمارات، وتعد أولوية يجب التركيز على التعامل معها في المستقبل، تؤثر في مجملها في معدلات الإنتاجية الفردية والمؤسساتية، وكفاءة إنتاج الطاقة، وفي البنية التحتية الساحلية والبحرية، وتوفر فرص الأعمال، بجانب تقليل الموثوقية، وابيضاض الشعاب المرجانية، وفقدان الأراضي الرطبة، فضلاً عن التغير في الظروف المناخية الحالية والمستقبلية، ممثلاً بارتفاع درجات الحرارة، ومتوسط الرطوبة والارتفاع التاريخي لمنسوب مستوى البحر، والتغير الواضح على معدلات هطول الأمطار السنوية.
كل هذه التحديات تتطلّب تضافر جهود أطراف المجتمع كافة، بما في ذلك المؤسسات الحكومية والأكاديمية، ومؤسسات القطاع الخاص على اختلاف مجالات عملها، وكذلك الهيئات البحثية والتطوعية والأفراد، لإيجاد حلول مبتكرة قابلة للتنفيذ على المديين القريب والبعيد، للحد من أسباب التغير المناخي، وتأثيراتها السلبية على مختلف جوانب الحياة، بل والسعي إلى الاستفادة منها على نحو إيجابي، عبر تحويلها من تحديات إلى فرص تنموية، تسهم في تحقيق التنوع الاقتصادي والمحافظة على النمو المستدام، وتؤكد أن الإمارات ستظل رائدة الاستدامة والمحافظة على توازن الطبيعة.
*عن نشرة «أخبار الساعة» الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.