تشير التقارير المتواترة، وغير المؤكدة حتى الآن، إلى أن مصدر فيروس كورونا الجديد، أو الكوفيد19، هو أصناف من الحيوانات البرية كانت تباع بشكل غير قانوني في أحد أسواق مدينة ووهان بوسط الصين. وهو ما عاد ليلقي بالضوء مرة أخرى على ظاهرة استهلاك بعض المجتمعات البشرية للحوم الأدغال (Bushmeat)، إما نتيجة لظروف اقتصادية، مثل الفقر وانعدام المصادر الغذائية الأخرى، أو بسبب عادات غذائية محلية، أو معتقدات ثقافية تربط بين هذه النوعية من اللحوم وبين الصحة والجمال والفحولة.
ويشير مصطلح لحوم الأدغال إلى لحوم الحيوانات البرية، مثل الثدييات، والزواحف، والبرمائيات، والطيور.. التي يتم اصطيادها من الغابات لغرض الاستهلاك البشري. وتعتبر هذه النوعية من اللحوم، مصدراً هاماً للغذاء في الدول الفقيرة، وخصوصاً سكان المناطق الريفية، ولدرجة أن عدد الحيوانات التي تم قتلها والاتجار بها خلال عقد التسعينيات مثلا في غرب ووسط أفريقيا، أصبح غير مستدام، مهدداً هذه الحيوانات بالانقراض والفناء. وبحلول عام 2016، قُدر أن أكثر من 300 نوع من الثدييات الأرضية أصبحت مهددة بالانقراض، بما في ذلك أصنافاً من القردة العليا، والحيوانات ذات الظلف، مثل الزراف والأيل والظبي، بالإضافة إلى الخفافيش، والجربيات، والقوارض، والحيوانات المفترسة آكلة اللحوم. ويحمل هذا السلوك البشري في طياته مشكلتين رئيسيتين، الأولى هي فقدان التنوع الحيوي نتيجة انقراض العديد من أنواع الحيوانات، والثانية هي انتقال الأمراض الفيروسية والبكتيرية والطفيلية من الحيوانات إلى الإنسان.
وتأتي أهمية التنوع الحيوي من أن البيئات الطبيعية هي عبارة عن حالة من التوازن بين التركيبات الوراثية المختلفة (أي أشكال الحياة)، بحيث غالباً ما يعتمد بقاء شكل من أشكال الحياة على وجود أشكال أخرى من الحياة في بيئته نفسها، ولذا يمكن أن يؤدي انخفاض التنوع الحيوي في بيئة ما إلى تداعي النظام البيئي وانهياره بالكامل. وكما تعتمد الحيوانات والنباتات على بعضها البعض في البقاء والاستمرار، يعتمد أيضاً أفراد الجنس البشري على التنوع الحيوي، للاستمرار في الحياة، وللحفاظ على صحتهم، وللوقاية من الأمراض والعلل. فالهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والغذاء الذي نتناوله، والأدوية التي نستخدمها، هي نتاج للتنوع الحيوي للكوكب الذي نعيش عليه.
أما المشكلة الثانية التي تنتج عن استهلاك لحوم الأدغال، أي مشكلة انتقال الأمراض الحيوانية إلى الإنسان، فالمعروف والمؤكد أن الإنسان والحيوان يشتركان في عدد من الأمراض المعدية، تُعرف بالأمراض حيوانية المنشأ، وهي الأمراض التي تصيب الحيوانات في الأساس، الفقارية في الغالب، لتنتقل منها إلى الإنسان الذي يمكن أن يكون بدوره مصدر عدوى للآخرين. حيث تعود جذور الكثير من الأمراض التقليدية إلى منشأ حيواني، مثل السُعْار (أو داء الكَلَب)، والجمرة الخبيثة، وفيروس النيل الغربي، هذا بالإضافة إلى عدد من الأمراض التاريخية، مثل الحصبة، والجدري، والدفتيريا، وحتى أمراض شائعة مثل البرد العادي، والسل الرئوي.. تردّ هي الأخرى إلى منشأ حيواني. ومن بين أكثر من 1400 مرض معد يصيب الإنسان، سواء في شكل عدوى فيروسية، أو بكتيرية، أو فطرية، أو طفيلية، تشكل الأمراض حيوانية المنشأ أكثر من 60 بالمئة من هذه الأمراض، أي ما يعادل تقريباً ثلثا الأمراض المعدية التي تصيب أفراد الجنس البشري. ويمكن إدراك أهمية الأمراض حيوانية المنشأ، من حقيقة كونها شكلت أخطر أوبئة الأمراض المعدية بين البشر في الذاكرة الحديثة. هذا الخطر أصبح يتزايد بشكل مضطرد، مع ازدياد استهلاك لحوم الأدغال، والتي يُعتقد أنها المسؤولة مؤخراً عن انتقال أمراض جديدة، كانت محصورة سابقاً داخل صنف أو نوع من الحيوانات يسكن بيئات برية في أعماق الغابات. وعلى سبيل المثال، وباء فيروس نقص المناعة المكتسبة أو الإيدز، الذي يصيب حالياً 35 مليون شخص، ووباء فيروس إيبولا الذي اجتاح دول غرب أفريقيا منذ شهر مارس العام الماضي، وتسبب حتى الآن في أكثر من 11 ألف وفاة مسجلة. وعلى المنوال نفسه، ترد أوبئة الإنفلونزا الحديثة بأنواعها المختلفة (الخنازير والطيور وغيرها) إلى أصول حيوانية.
وهناك أيضاً، فيروس مرض سارس، والذي انتشر عام 2003 ليصيب أكثر من 8 آلاف شخص، توفي منهم 774 شخصاً، ويعتقد أنه انتقل للإنسان من أحد أنواع القطط البرية (Civet Cat). ومؤخراً فيروس كورونا الجديد الذي يعتقد، وإن لم يؤكد بعد، أنه انتقل من الخفافيش عبر وسيط من الطيور والثدييات، وليس من الثعابين كما كان يُعتقد في البداية.
وتظل العلاقة بين الإنسان والأمراض الحيوانية علاقة شائكة، مع التوقع بأن تزداد هذه العلاقة تعقيداً، نتيجة ازدياد أعداد البشر، وبسبب تغولهم على البيئات الطبيعية، واستهلاكهم للمزيد من الحيوانات البرية التي تحمل في أعضائها وأنسجتها ميكروبات، تتعايش معها في سلام ووئام، لكن قد تتسبب هذه الفيروسات والميكروبات في أمراض وأوبئة وجائحات، إذا ما نجحت في القفز لأحد أفراد الجنس البشري.