ذكر صندوق النقد الدولي في آخر تقرير له عن دول مجلس التعاون الخليجي أن «دول الخليج العربية تعد من أغنى دول العالم، إلا أن ثرواتها المالية المقدرة بتريليوني دولار قد تستنفد في غضون الخمسة عشر عاماً القادمة في ظل تدني إيرادات النفط والغاز، ما لم تسرع خطى الإصلاحات المالية»، مستشهداً في ذلك بتضرر الاقتصادات الخليجية بشدة من جراء انخفاض أسعار النفط بين عامي 2014 و 2015.
هذا التقرير أثار الكثير من الجدل وعدم اليقين، بل وبعض المخاوف بشأن المستقبل الاقتصادي لدول المنطقة، فما هي طبيعة الأوضاع والاستنتاجات التي أشار إليها الصندوق؟ حقيقة هناك ظروف موضوعية مستجدة وقابلة للتعمق والتعقد مستقبلاً، وهناك أيضاً بعض المبالغات التي لم تأخذ بعين الاعتبار الصورة الكاملة للاقتصادات الخليجية، وإنما ركزت على جانب واحد منها.
الظروف المستجدة تتعلق أولاً باقتصادات دول المجلس التي أضحت أكثر تأثراً من السابق بتقلبات أسعار النفط، وذلك بسبب الارتفاع الكبير في الالتزامات الاقتصادية والأمنية والمخاطر الجيو-سياسية، مما يضع على كاهله أعباء إضافية ومتزايدة، إضافة إلى التغيرات التكنولوجية والذكاء الاصطناعي اللذين يساهمان في إيجاد المزيد من الخلل في إعادة توزيع الثروة بين البلدان الصناعية والنامية، وذلك إلى جانب أن اقتصادات المنطقة لا زالت تعتمد اعتماداً كبيراً على عائدات النفط والغاز، وذلك على الرغم من التقدم الذي تحقق في العقود الثلاثة الماضية، والخاص بإضفاء المزيد من التنوع على هذه الاقتصادات.
أما المبالغة، فإنها تختص بشطب القطاع النفطي تماماً من المعادلة الاقتصادية الخليجية في عام 2035، إذ أننا نتفق مع الرأي القائل، بأن عصر النفط سيبدأ بالانحسار بعد ذلك التاريخ، إلا أنه سيبقى مصدراً مهماً من مصادر الطاقة، وفي نفس الوقت، فإن القدرات التمويلية لدول الخليج المخصصة للبناء والتنوع الاقتصادي ستبدأ بدورها في الانخفاض، مما سيشكل خللاً كبيراً للتوفيق بين الإنفاقين الجاري والاستثماري والذي سيصعب التعامل معه مع مرور الوقت، كما بودنا أن ننوه إلى أن إجمالي موجودات الصناديق السيادية الخليجية تبلغ ثلاثة تريليونات دولار تقريباً.
هذه الصورة بين المستجدات الموضوعية والمبالغات والتي أشرنا إليها باختصار، يفترض أن يتم الانتباه لها والعمل على التحضير لمعالجة تداعياتها المحتملة، فهي تحمل بين طياتها بعض المخاوف والتوقعات المبنية على افتراضات تملك أسساً لها علاقة بالتغيرات الهيكلية في الاقتصاد الدولي وفي أسواق الطاقة، باتجاه الاعتماد بصورة متزايدة على مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة، حيث اتخذت منذ الآن إجراءات عملية، إذ انضمت بريطانيا مؤخراً إلى بقية دول الاتحاد الأوروبي، بمنع تصنيع وتسويق السيارات العاملة بالبنزين والديزل اعتباراً من عام 2032، كما يتزايد باطراد الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة في إنتاج الكهرباء ووسائل النقل والاستخدامات المنزلية.
وبالتالي، تتطلب النظرة الموضوعية عدم تجاهل هذا التحذير الصادر عن مؤسسة دولية لها ثقلها، وفي الوقت نفسه العمل بسرعة على القيام بإجراءات لتجنب هذا المطب، خصوصاً أن الفترة المتبقية قصيرة جداً، إلا أن هناك أيضاً بعض التفاؤل الخاص بامتلاك دول مجلس التعاون الخليجي لإمكانات وقدرات مالية وثروات بشرية وطبيعية تؤهلها لتجنب ذلك، إلا أن هذا بدوره بحاجة لإعادة النظر في العديد من التوجهات الاقتصادية والمالية وإعادة هيكلتها وإعداد برامج التنمية المبنية على الاهتمام بالعنصر البشري وفتح المجالات لإبداعاته واختراعاته، بغض النظر عن أي اعتبارات اجتماعية، وكذلك استقطاب المؤهلات البشرية الخارجية وتوطينها، والتي أصبحت أهميتها توازي استقطاب رؤوس الأموال، حيث أحدث التقدم التقني فوارقَ مهمة في هذا الجانب.
بمثل هذه وغيرها من التوجهات الاقتصادية والتنموية، يمكن التقليل بدرجة كبيرة من الصورة التي رسمها صندوق النقد الدولي وتلافي الكثير من المخاطر التي يمكن التعرض لها، وبالتالي المحافظة على مستويات المعيشة وعلى الاستقرار والأمن الاجتماعي.