تجمع الآلاف من الأشخاص في عدة مدن ألمانية لتكريم ضحايا الهجومين اللذين وقعا منذ أيام في مدينة هاناو، وأديا إلى مقتل تسعة أشخاص. وتجمع هؤلاء في هاناو قرب فرانكفورت، وأيضاً في هامبورغ وبرلين، علاوة على خمسين مدينة أخرى، للتعبير عن رفضهم للكراهية والعنصرية والأعمال الإرهابية. وتواجه ألمانيا تهديداً إرهابياً متصاعداً من اليمين المتطرف لا مثيل له في أية دولة أوروبية أخرى. وقد أعلن وزير الداخلية الألماني هورست سيهوفر أنه سيتم تعزيز تواجد الشرطة في أنحاء البلاد، وأن هذه العملية ستشمل المساجد ومحطات القطارات والمطارات والمناطق الحدودية لمواجهة التهديد «المرتفع جداً» من اليمين المتطرف. ومن جهتها، ذكرت وزيرة العدل كريستين لامبرخت أن الحكومة «ستدرس بدقة» كيف يمكن لـ«متطرفين» حيازة أسلحة بصورة مشروعة، كما كان الحال في هجوم هاناو. وأضافت أن عنف اليمين المتطرف يشكل «التهديد الرئيسي» للديمقراطية الألمانية، ليس فقط بسبب «عدد» المشتبه بهم، بل أيضاً بسبب «شدة» تصميمهم. واعتبرت أن هؤلاء يتشربون الفكر المتعصب عبر الإنترنت، ويمثلون «قنابل موقوتة، علينا مواجهتها بجميع الإمكانيات التي يسمح بها الدستور».
وللأسف، فإن هذه العناصر تستفيد من حرية الحصول على الأسلحة في بلد بوجد به حوالي 5.4 مليون قطعة سلاح، وسبق وأن حجزت الشرطة 1091 قطعة سلاح في 2018، مقابل 676 في العام السابق، في إطار تحقيقات حول مخالفات وجرائم منسوبة لليمين المتطرف. ونادى أعضاء «حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي» المحافظ بتعزيز التشريعات حول الأسلحة، وهو ما يعد تحدياً في بلد مولع برياضة الرماية التي كان قاتل هاناو يمارسها. وشددت ألمانيا مباشرة بعد الهجومين الإرهابيين مراقبتها لحيازة الأسلحة النارية، وتبنت خلال جلسة لمجلس الوزراء تدابير جديدة لكشف تهديدات اليمين المتطرف على الإنترنت وفرض عقوبات أقسى.
ذلك من جهة، ومن جهة أخرى لا يجب أن ننسى أن الخطابات السياسية من طرف الأحزاب الألمانية ضد المهاجرين عموماً والمسلمين منهم خصوصاً، غذت وما تزال فكر وأعمال اليمين المتطرف. ففي مقال للفيلسوف يورغن هابرماس، الذي يمثل الانتلجنسيا الأوربية النقدية التي مازالت توجه أصبع الاتهام إلى الشر والبؤس، نشرته جريدة أميركية، حاول إعطاء جواب مقنع لهذا المشكل بعيداً عن القراءات السطحية والمغرضة التي تصدر أحياناً عن مفكرين أوروبيين ذوي قناعات حزبية وسياسية تؤثر على فهم الأمور، بل وعلى مجرى الأحداث، لأن الساسة غالباً ما يعتمدون على تحاليلهم ودراساتهم لتكون لهم عوناً ونصيراً في تعليل سياساتهم المتعلقة بالأجانب.
وأشار الفيلسوف الألماني إلى أن العامل الانتخابي وضرورة استقطاب أصوات الناخبين، سبب أساسي لتلبّس الوعي المجتمعي الألماني بالصور النمطية عن الإسلام والمسلمين، مما رسخ في عقول الألمان مقولة وجود الهوية والثقافة الوطنية الألمانية في خطر، وهي مقولة ما فتئ ساسة الأحزاب يشعلون فتيلها كلما دعت الضرورة إلى ذلك، من قبيل ما وقع في التسعينيات عندما زحف آلاف المهاجرين من يوغوسلافيا السابقة، طالبين اللجوء السياسي في ألمانيا، مما أثار زوبعة احتجاجات سياسية، لكن خلافاً لما وقع في تلك الفترة، فإن الساسة الألمان أضافوا الآن خصوصية جديدة في دفاعهم عن الهوية والمرجعية الوطنية، وهو كونها هوية «يهودية مسيحية». ويتساءل هابرماس عن نسيان الساسة الجدد لما وقع لليهود في ألمانيا!
لا يمكن تجاهل التراكمات التاريخية المغذية للمشاعر الوطنية، والتي تتجاوز حدود ألمانيا لتشمل جل الدول الأوربية، لكن الذي بدأ يقع في ألمانيا هو وصول صفوة من المسؤولين إلى كراسي أخذ القرار دون أن يكون لهم باع في السياسة، أو تجربة تاريخية تجعلهم يفرقون بين الدعايات الحزبية السياسوية وما يجب أخذه من قرار للمحافظة على توازن المجتمع الوطني.
إن معاداة الإسلام في ألمانيا، وفي جل الدول الأوروبية، مردها اليوم إلى الخطابات السياسية لبعض الأحزاب التي تعتمد على مرجعيات فكرية سياسوية، والأدهى من ذلك أن حكاماً جدداً دون تجربة سياسية وبحاجة إلى تأييد شعبي، وجدوا في معاداة الإسلام والمسلمين تجارة رابحة ومخزوناً انتخابياً لا ينفد.