قدّم مهاتير محمد استقالته من رئاسة وزراء ماليزيا مؤخراً، ومن المتوقع أن يعود صانع أحد الاقتصادات الآسيوية البارزة إلى الظل مجدداً، في تقاعد سياسي يتكرر للمرة الثانية، سبق أن جربه عندما استقال من المنصب ذاته للمرة الأولى عام 2003. لكن الفارق يبدو كبيراً بين الاستقالة الأولى والثانية. فالسياسي العجوز يغادر كرسي رئاسة الحكومة الماليزية في سن الـ95 من دون إنجازات ومن دون تعاطف شعبي، بينما خرج بالاستقالة الأولى من السلطة وهو في قمة الإنجاز والمجد والشعبية، بعد أن أمضى في موقعه الحساس فترة طويلة استمرت من 1982 إلى 2003. لكن إنجازه الأكبر يتمثل في جعل ماليزيا قوة اقتصادية صاعدة تغلبت على الأزمات، ومنها الأزمة المالية التي عصفت في التسعينيات بالنمور الآسيوية، التي تضم تايوان وسنغافورة وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية.
التطور الذي شهدته ماليزيا في عهد مهاتير لا يزال يمثل حتى اليوم أساساً لحضورها في المشهد الاقتصادي العالمي، ويحسب له أنه استنهض الطاقات واستثمر الفرص وأعطى الأولوية للتعليم المرتبط باحتياجات سوق العمل، فتحولت ماليزيا على يديه من دولة شبه بدائية تعتمد على الزراعة إلى دولة صناعية ومنطقة جذب للشركات والأيدي العاملة.
بلغت جهود مهاتير ذروتها بتحقيق الصناعة والخدمات عائدات تقترب من 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وكان مشهد اعتزاله باستقالته الأولى مؤثراً في أوساط الماليزيين. ثم بعد فترة غياب طويلة عن المشهد عاد في 2018 إلى المنافسة وتربع على منصبه السابق مرة أخرى وهو في سن الـ92.
من المفارقات التي طبعت فترة نشاطه الرسمي ورئاسته للحكومة الماليزية في مايو 2018، أن الإعلام الذي كان يشير إلى مهاتير في السابق باعتباره منقذ ماليزيا من الأزمة الاقتصادية، والدينامو المحرك للاقتصاد والاستثمار والتحول الصناعي فيها، أصبح يشير إليه بوصفه مجرد أكبر الحكام عمراً في العالم، بحيث طغى هذا الوصف على ما عداه، ولم يستطع الرجل تجاوزه عملياً بتقديم إنجاز جديد يمكن للإعلام رؤيته وربطه بمهاتير، بل إن التوقعات بشأن ما الذي يمكن أن يحققه تراجعت، وخاصة في ظل توترات داخل التحالف الحاكم الذي يقوده. وبالفعل لم يحقق مهاتير خلال فترة توليه المنصب مؤخراً ما يتوازى مع تاريخه الحافل. على العكس من إنجازاته وشهرته السابقة، ينسحب دينامو ماليزيا من المشهد في أجواء مغايرة لا تشبه تلك الأجواء العاطفية الحزينة التي ترافقت مع استقالته الأولى.
وما بين عودة مهاتير إلى الأضواء ثم انسحابه واستقالته، لن يتذكر له الإعلام الآن سوى أنه تسعيني يغادر كرسي حكومة، أصبحت تحدياتها تختلف عن تحديات ومتطلبات القرن الماضي الذي ينتمي إليه وكان يفكر طبقاً لمحدداته وشروطه. الأمر الآخر أن السياسة لا ترحم، فقد يكون رصيد السياسي حافلاً بالمواقف الجيدة، ثم يتخذ قراراً يضر بذلك الرصيد وينسف كل ما فيه من إيجابيات.
لقد ارتبط اسم مهاتير بماليزيا ونهضتها، وكان عليه الإصغاء لمن نصحوه بحماية تاريخه المشرف، لكنه عاد إلى السلطة وها هو يغادرها في ظروف مختلفة من دون أن يبكي الجمهور بسبب استقالته كما حدث عام 2003.
قد لا يعرف البعض أن المهنة الأصلية لمهاتير هي الطب، لكنه برع في تقديم الحلول الاقتصادية الناجحة التي تجاوزت بفضلها ماليزيا العثرات وانتعش اقتصادها في التسعينيات. ومنذ ذلك التاريخ زادت شهرته وأصبح أيقونة في عالم الاقتصاد الآسيوي الناهض، وطاف المؤتمرات الدولية متحدثاً عن تجربة بلده، كما حققت بعض كتبه شهرة وتناقلت الصحف التعليق عليها وعرضها.
وعلى المستوى الماليزي المحلي هناك خلافات سياسية وتنافس حاد فرض الاستقالة كحل ربما، في المقابل لا يمكن تجاهل الأخطاء التي أخذت أبعاداً إقليمية ودولية، أبرزها وقوف مهاتير وراء جمع أشتات قيادات الإسلام السياسي والمحور الإيراني التركي في قمة كوالالمبور، التي فشلت وكانت لها تداعيات سلبية ختم بها حياته السياسية.
جوهر الدرس الذي يستنتجه المتابع يتلخص في أن عودة مهاتير إلى العمل الحكومي لم تقدم إضافة إلى رصيده السابق، بل أخذت الكثير من رصيده وشعبيته. وخاصة أن له تاريخاً لامعاً في بلده، ويصعب قياس أو احتساب النجاحات القديمة للتغطية على الإخفاق المتأخر.

*كاتب إماراتي