يُعَد الرئيس الأميركي السادس عشر «إبراهام لينكولن» أعظم رؤساء الولايات المتحدة على إطلاق، رغم أن فترة حكمه (مارس 1861 -إبريل 1865) قد اجتاحتها كلها الحرب الأهلية الأميركية. ولنا أن نلاحظ من التواريخ أن الحرب قد اشتعلت بعد شهر ونيف من توليه الرئاسة وانتهت بعد اغتياله بأربعة وعشرين يوماً تقريباً. ومعنى هذا أن دراسة فترة رئاسته مرتبطة ارتباطاً كاملاً بدراسة تلك الحرب التي أخذته معها وهي وتضع أوزارها.
ولو وسعنا دائرة الفلاسفة قليلاً فأدخلناه فيهم، وتساءلنا ببساطة: إلى أي المدارس الفلسفية كان ينزع «لينكولن»؟ لربما كان الجواب هو: «الواقعية»، وبلا تردد. إن التحليل العميق لشخصية لينكولن، كما ورد في كتاب «القيادة العليا.. الجنود ورجال الدولة والقيادة في زمن الحرب»، لمؤلفه «إيليوت كوهين» (ترجمتي)، يشهد لهذه الواقعية. ومن ذلك ما لاحظه سكرتيره الخاص الذي وصفه بأنه خلال سنوات الحرب الأربع الشاقّة، لم يتظاهر لينكولن بمعرفة أي نبوءات، ولم يسجّل أي توقّعات، كما يفعل المثاليون والحالمون. وعندما ينتابه شعور بضعف الثقة، أو تعتريه المخاوف المصحوبة بالتساؤلات المستمرة، كان يتجاوز هذا بالحديث عما فعل، لكنه لم يكن يخبر أحداً بما ينوي فعله.
كانت عبارة لينكولن الأثيرة التي طالما كرّرها: «سياستي هي ألا أعتمد أي سياسة». ولهذا قرر كثيرون، بصورة لا منطقية تجافي الحقيقة، أنه كان بلا خطط ولا وسائل مناسبة، لكن عبارته لا تعني أكثر من الواقعية السياسية المشبّعة بروح الفلسفة البراغماتية التي سبق بها تشارلز ساندرز بيرس ووليام جيمس وجون ديوي. بطبيعة الحال، كانت للينكولن أمنياته ورغباته، لكنه لم يرتكب الخطأ الاستراتيجي الذي وصفه نابليون مرة بأنه «اختلاق صور» للعالم كما يتمّناه المرء، لا كما هو في الواقع.
وكان مكتب التلغراف بمثابة بيته، يراقب أخبار الحرب أولاً بأول، ويتابع التفاصيل الدقيقة للحياة الشخصية لجنرالاته، دون أن يشعروا بذلك. وكان يترك لهم مساحة كافية للتحرك العملياتي، بعد أن يتوصلوا لخطة تتوافق مع تصوّره الاستراتيجي حول كيفية كسب الحرب، تصوّر يعود إلى المراحل الأولى من الصراع. وقد سبق اختياره للجنرال جرانت قائداً عاماً لجيوش الولايات المتحدة الأميركية، سنوات طويلة من المراقبة والتقييم. والأهم من ذلك أن المراقبة لم تنته بترقية جرانت لمنصب القائد العام، كما لم تنته المتابعة المستمرة واللصيقة للعمليات العسكرية التي كان يمارسها بأساليب أكثر دقّة وبراعة لا تقل فعالية عن إصدار الأوامر المباشرة. لم يكن لينكولن يعثر على قادته فقط، بل كان يسيطر عليهم أيضاً، وهكذا أدار الحرب وفق رؤيته هو حتى آخر أيامه، وكان يعتزم أيضاً السيطرة على صنع السلام في نهايتها لولا حادثة اغتياله.
هناك الكثير مما يمكن الإفادة منه عند قراءة سيرة هذا القائد الفذ، مما لا تسمح به المساحة هنا، لكن في هذه الإشارة ما يكفي، ويمكن للمثقف المهتم بالشأن السياسي أن يعود لكتب مثل «لينكولن وجنرالاته» للمؤلف «ت. هاري وليامز»، وكتاب «لنكولن يعثر على جنرال» لكينيث ب. وليامز، والمجلد الرائع الذي جُمعت فيه خطابات ومراسلات هذا القائد العظيم.