شكلت الأطراف المتحاربة في جنوب السودان، يوم 22 فبراير المنصرم، «حكومة وحدة وطنية» يحتل فيها رياك مشار، زعيم المتمردين، منصب نائب الرئيس، في أهم محاولة منذ سنوات لإنهاء حرب أهلية ضروس قتلت ما لا يقل عن 400 ألف شخص، وأخرجت ملايين الأشخاص من ديارهم. ويأتي الاتفاق بين مشار ورئيس جنوب السودان سيلفا كير بعد محاولتين فاشلتين أدتا إلى العودة إلى الحرب. وتصاعدت الضغوط الدولية على الزعيمين بعد موعد نهائي للتوصل إلى اتفاق سلام على مدار العام الماضي. لكن تقديم تنازلات محورية في الآونة الأخيرة مهّد الطريق للاتفاق. وأعلن كير في مراسم التوقيع على الاتفاق أن «هذا التحرك يسجل نهاية رسمية للحرب، ويمكننا أن نعلن الآن فجراً جديداً لجنوب السودان. السلام جاء ليبقى لا ليهتز مجدداً في هذه الأمة».
وحصدت الحرب الأهلية في جنوب السودان أرواح عدد من السكان يساوي تقريباً ما حصدته حرب سوريا الأهلية، وإن يكن في وقت أقصر. وألقى الصراع أنحاء من البلاد في غياهب المجاعة، ودفع أكثر من 2.2 مليون شخص للفرار إلى الدول المجاورة وترك 1.4 مليون شخص مشردين، و190 ألفاً يعيشون تحت الحماية المباشرة للأمم المتحدة. وذكر «أوت دينج أكويل»، وزير خارجية جنوب السودان، في مكالمة هاتفية أن «هذا الاتفاق يمثل تحولاً في تاريخنا. معاناة شعبنا ستنتهي. سنقوم بتيسير عودة الناس من الدول المجاورة».
ويتوقف صمود الاتفاق على نقطتين محوريتين: أولاهما مطالبة مشار بتقليص عدد ولايات البلاد من 32 إلى 10 ولايات، مجادلاً بأن حدود الولايات تم التلاعب بها لصالح قبيلة «الدينكا» التي ينتمي إليها الرئيس كير. وثانيتهما إصرار كير على عدم السماح لمشار بجلب قواته الأمنية الشخصية إلى العاصمة جوبا، مخافة تكرار العنف الذي هز المدينة في يوليو 2016 بعد انهيار اتفاق سابق للسلام.
ويرى آلان بوسويل، وهو محلل مختص بشؤون جنوب السودان في مجموعة الأزمات الدولية وكان في جوبا لحضور مراسم توقيع الاتفاق، بعد عودته من المناطق التي تحاول فيها قوات كل من كير ومشار الاندماج في جيش موحد.. يرى أن «هذا كان الطريق المنظور الوحيد للأمام. إنه يوم شديد الأهمية.. لكنه بطريقة أخرى يمثل خطوة حبو إلى الأمام، لا تغير كبيراً للوضع في البلاد. جنوب السودان لن يخرج من كونه دولة فاشلة بين عشية وضحاها. الأمر سيستغرق عمل أجيال لتجميع الأجزاء المنهارة، من أجل مجرد العودة إلى حيث كانت عشية الاستقلال».
وظهرت جنوب السودان كأحدث دولة في العالم عام 2011 بعد صراع دموي للانفصال عن السودان. لكن المنافسة في عام 2013 بين الرئيس كير ومشار الذي كان نائبه في ذلك الوقت، تحولت إلى عنف وانزلقت البلاد معه إلى حرب شاملة. وارتكب الجانبان انتهاكات واسعة.
وذكر تقرير للأمم المتحدة، نُشر في الأيام القليلة الماضية، تفاصيل تشير إلى أنه رغم التحرك نحو السلام، فإن الجانبين يواصلان ارتكاب جرائم حرب. وذكر مؤلفو التقرير أن شعب جنوب السودان «تم تجويعه عمداً» في مناطق مختلفة من البلاد لأسباب عرقية وسياسية، وأن العنف الجنسي ضد النساء مازال يجري استخدامه كسلاح حرب. وذكر التقرير تفاصيل عن استيلاء مسؤولين من إدارة كير على ملايين الدولارات من خزائن الحكومة.
وفي الشهور القليلة الماضية اجتمع زعماء دول إقليمية ومجاورة لجنوب السودان مع كير ومشار للتوصل إلى اتفاق. وفرضت الولايات المتحدة، التي لعبت دوراً محورياً في استقلال جنوب السودان، عقوبات على أعضاء من حكومة كير في مسعى لدفع العملية قدماً.
وحتى بابا الفاتيكان، تدخل في القضية العام الماضي حين قام بتقبيل أقدام كير ومشار في لحظة أعيد تقديمها في صور في بداية مراسم التوصل لاتفاق يوم 22 فبراير في جوبا. وجاء في رسالة تهنئة من السفارة الأميركية: «صحيح أنه مازال هناك الكثير من العمل يتعين القيام به، لكن هذه مرحلة محورية مهمة في الطريق إلى السلام». وذكر وزير خارجية جنوب السودان أن بلاده والولايات المتحدة ليستا عدوتين، وأنه يتعين تطبيع العلاقات لتمكين جنوب السودان من التعافي تماماً.
ويتهم مشار منافسه كير باقتطاع منطقة غنية بالنفط من ولاية زعيم المتمردين الأم وتحويلها إلى منطقة تدار اتحادياً، مما يبعدها فعلياً عن سيطرته. وأقال كير كل محافظي الولايات الاثنتين والثلاثين وفرق موظفيهم، وكان بعضهم يدير ميليشيات خاصة به.
وسيعمل كير ومشار حالياً على جمع التمويل لدعم مساعي التعافي ولدمج قواتهما الأمنية في جيش واحد وتهيئة الساحة لإجراء انتخابات قومية. ويرجح أن يتنافسا كمرشحين على منصب الرئيس.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»