في ذروة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، أنشأت حكومة الأقلية البيضاء هناك ما عرف باسم «البانتوستانات» ليعيش فيها ذوو البشرة السوداء بعيداً عن المدن التي كانت تأمل الحكومة في الحفاظ عليها «بيضاء». وكان ذلك تتويجاً للاضطهاد العنصري («الآبارتايد»). لكن الحكومة البيضاء فشلت وانتصر السكان الأصليون. واليوم، ها هي ذات السياسة تتكرر في فلسطين، حيث يتم منح إسرائيل الضوء الأخضر لتطبيق نظام الفصل العنصري.
يسود العالمَ المتحضرَ قلق عميق عبّرت عنه دول ومؤسسات وقيادات عالمية محذرة من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة. وقد وقّع خمسون وزير خارجية ومسؤولاً سامياً أوروبياً على رسالة عبروا فيها عن «قلقهم الشديد من الخطة باعتبارها تخلق دولة تمييز عنصري». وجاء في الرسالة: «الخطة تناقض المعايير الدولية للعملية السلمية والقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، وتسمح بضم مناطق واسعة من الأراضي الفلسطينية المحتلة وتشرعن وتشجع النشاطات الاستيطانية الإسرائيلية. كما تعترف بزعم طرف واحد في القدس ولا تقدم حلاً لمسألة اللاجئين الفلسطينيين. وتقترح (دولة) فلسطينية على منطقة متشرذمة بدون سيطرة أو سيادة. وتظهر الخريطة التي استخدمت في الخطة جيوباً فلسطينية خاضعة لسيطرة إسرائيلية دائمة تذكر بالبانتوستانات في جنوب أفريقيا».
مرشحان للرئاسة الأميركية عارضا «الخطة»، واعتبراها «أمراً مزيفاً وغير مقبول وغير واقعي»، حيث دان المرشح «الديمقراطي» بيرني ساندرز (يهودي) الخطة داعياً إلى «إنهاء الاحتلال الإسرائيلي المستمر للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967»، مؤكداً أن «الخطة ستزيد من حدة الصراع لأنه يجب أن يحصل الفلسطينيون على حقهم في تقرير مصيرهم لإقامة دولة مستقلة وديمقراطية». كما عارضتها المتسابقة داخل الحزب ذاته، اليزابيث وارن، وقالت: «الخطة إقرار للضم، ولا تقدم أي فرصة لدولة فلسطينية حقيقية. إطلاق خطة دون التفاوض مع الفلسطينيين ليس دبلوماسية، إنه أمر مزيف».
كذلك جاء موقف العديد من الكنائس، حيث أوضح «مجلس الكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدسة» أنها «لا تعطي الفلسطينيين لا كرامة ولا حقوقاً. وهي مبادرة أحادية الجانب، تؤيد جميع مطالب الجانب الإسرائيلي وحده، وبرنامجه السياسي، ولا تأخذ بالاعتبار المطالب المحقة للشعب الفلسطيني في وطنه وحقوقه وحياته الكريمة، وستتسبب بمزيد من العنف وإراقة الدماء».
كما أعربت الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية عن رفضها للخطة، معتبرة أن «القضية الفلسطينية قضية شعب تنتهك حقوقه يومياً ويتعرض لأبشع أنواع التمييز العرقي من قبل سلطة محتلة». وحذّر البابا فرانسيس من الحلول «غير العادلة» الهادفة لإنهاء الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ومن جهتها، اعتبرت «رابطة الدول المستقلة»، المكونة من 12 جمهورية سوفييتية سابقة، خطة ترامب «محاولة مليئة بالمخاطر، ترسخ الضم أحادي الجانب».
وانضمت عشرات المنظمات اليهودية الليبرالية البارزة في أنحاء العالم لتحالف دولي واسع ضد «الخطة»، على رأسه «جي ستريت»، و«صندوق إسرائيل الجديد»، و«الشبكة التقدمية الإسرائيلية»، و«حركة السلام البريطانية –ياشاد».. وغيرها من المنظمات اليهودية من أوروبا وجنوب أفريقيا وأستراليا وكندا وأميركا الوسطى. ودعا التحالف في بيانه المهم «قادة العالم إلى رفض الصفقة أحادية الجانب، والتي ستجعل، حال تنفيذها، احتلال إسرائيل دائماً وتضفي عليه طابعاً عادلاً زائفاً». وقال التحالف في بيانه: «نحن تحالف متنوع من المنظمات اليهودية والأفراد من مجتمعات العالم نرفض صفقة ترامب أحادية الجانب التي تعطي إسرائيل الضوء الأخضر لضم الأرض الفلسطينية، وتضفي الشرعية على المستوطنات المبنية في انتهاك واضح للقانون الدولي، وتزيل احتمال قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة». وختم البيان: «إنها خطة سلام بالاسم فقط تديم الاحتلال وتمهد لمزيد من سفك الدماء والصراع. وبوصفنا يهوداً في الشتات، ندعو اليهود في جميع أنحاء العالم وزعماء الدول لرفض هذه الصفقة الوهمية».
ولطالما رفضت إسرائيل تشبيهها بنظام الفصل العنصري (الآبارتايد)، لكن «خطة ترامب» تدفع نحو جعل الأمر حقيقة على الأرض. وفي مقال لافت، قالت الكاتبة الإسرائيلية عميره هاس: «صفقة القرن خطة تحمل تجاهلاً نموذجياً للحقائق. وفيها سيادية كولونيالية جديدة.. صفقة تتساوق مع المشروع الكولونيالي الإسرائيلي». وفي ذات السياق، قال ألون ليل، السفير الإسرائيلي لدى جنوب أفريقيا بين عامي 1992 و1994، أثناء انتقالها إلى الديمقراطية: «إنها ليست صفقة، بل خطة طويلة الأمد لنتنياهو بغية ترسيخ سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية بإعطاء سكانها جيوباً منفصلة دون منحهم حرية حقيقية أو حقوقاً أساسية. وكان هذا هو بالتحديد هدف سياسة البانتوستان القديمة لحكومة جنوب أفريقيا».