تصلح الأزمة العالمية المصاحبة لفيروس كورونا حالة نموذجية لملاحظة التحولات التي تهدد الاستقرار العالمي، وتسبب الفقر والخسائر لدول وجماعات وأفراد كانت تعتمد على فرص اقتصادية لم تعد موجودة، وهي حالات وإنْ كانت قادرة على تدبير موارد وأعمال توفر الاحتياجات والأولويات الأساسية، فإنها يغلب عليها الهشاشة ومحدودية الخيارات والبدائل، وكانت مكتسباتها مستمدة من بيئة غير مستقرة وقابلة للتحول والزوال، والواقع أن السنوات الماضية ومنذ الأزمة العالمية عام 2008 تؤشر إلى استحقاقات كثيرة كانت متوقعة برغم التقدم الاقتصادي والازدهار (يبدو ازدهاراً) الذي شهدته دول وأمم كثيرة منذ نهاية الثمانينيات، فهو تقدم كان يعتمد على علاقات تكامل تجاري وصناعي (سلاسل القيمة العالمية) لم تعد تعمل بالزخم الذي بدأت به، أو حركة اقتصادية وسياحية واسعة بعد ظهور طبقات وسطى وغنية جديدة في الصين والهند وروسيا ومنظومة الاتحاد السوفييتي السابق، وهي وإنْ أنشأت أسواقاً جديدة لتصدير منتجات لم تكن تمثل أسواقاً تقليدية لها، كما نشطت حركة السياحة العالمية، وأنشأت عمليات استثمار وتشغيل واسعة في الدول المستقبلة للسياح، لكنه تقدم مثل «جمعة مشمشية» يكون الضحية الأولى لأي أزمة اقتصادية.
وفي الوقت نفسه، فإن الطبقات الجديدة التي نشأت حول هذه الأسواق لم تكن تملك أصولاً وموارد دائمة تحميها من الأزمات والكوارث، والأسوأ من ذلك، فإنها دخلت في مرحلة جديدة من التطلعات الاستهلاكية وأسلوب في المعيشة قائم على القروض، مثل امتلاك السيارات والمساكن، وهكذا فإن هؤلاء الفقراء الجدد، لم يخسروا فقط مواردهم، لكنهم يواجهون التزامات مالية إضافية تجاه البنوك. ويوجد اليوم في الأردن (وهو مثال قابل للتعميم) عشرات الآلاف من المفلسين أو المطلوبين للقضاء بسبب عجزهم عن الوفاء بالتزاماتهم. وهؤلاء أيضاً في عدم وفائهم بالتزاماتهم تسببوا بخسائر لشركات ومؤسسات اقتصادية كانت ترتب مواردها وأعمالها والتزاماتها بناء على الاتفاقيات والعقود التي أبرمتها معهم.
هؤلاء «الفقراء الجدد» إن صحت العبارة ينتمون إلى طبقات وسطى متعلمة يشكلون نواة صلبة ونشطة لحراك اجتماعي واسع في معظم أنحاء العالم يتحالف معها فئات كثيرة من «الخاسرين» من أصحاب المهن والأعمال التي تعرضت لتحولات كبرى، أو عصفت بها التكنولوجيا الجديدة، ومن المهمشين في المدن، والذين كانوا يدبرون حياتهم بأعمال غير منتظمة لم تعد موجودة.
والحال أن موجة الغضب الصاخبة التي اجتاحت دولاً عربية، وسُميت بـ«الربيع العربي»، هي موجة عالمية تهدد معظم دول العالم، وما زالت تعبر عن نفسها، وتطلّ برأسها من تحت الرماد في أنحاء ومناسبات كثيرة، وقد تعكس نفسها في أحداث سلمية، لكنها تحولات عميقة ومؤثرة، كما في الانتخابات العامة في الولايات المتحدة، التي تشهد استقطاباً حاداً غير مسبوق بين المتضررين والفقراء الجدد الذين يؤيدون ترامب، والطبقات الوسطى والجماعات الإثنية التي تتعرض أيضا لضغوط اقتصادية واجتماعية تعبر عنها بتأييد «ساندرز»، فهذا الانزياح الأميركي عن الوسط باتجاه اليمين أو اليسار سيؤدي (ربما) إلى إضعاف وغياب الوسط السياسي التاريخي في الولايات المتحدة من «المحافظين» و«الديمقراطيين»، والأمر نفسه يحدث (وحدث) في إسرائيل، حيث انحسر الوسط السياسي العريق والمؤسس لإسرائيل (حزب العمل) لصالح اليمين والأصوليات، وحتى تقدم فلسطينيي إسرائيل (عرب 48) في الانتخابات، والذي انعكس في حصول «القائمة المشتركة» على خمسة عشر مقعداً في الكنيست لأول مرة في تاريخ الانتخابات الإسرائيلية، إنما يعكس أيضاً مشاعر ومخاوف الفلسطينيين من التهميش والإقصاء.
العالم كله اليوم، المتقدم والنامي والفقير يعيش تحت وطأة التهديد الذي يصنعه الوباء والفقر والهجرة واليأس والغضب.