فجأة تُرحّل كل الملفات الكبرى، ويتفرغ العالم لمواجهة جائحة كورونا المستجد (كوفيد-19)، من حرب التعرفات والإعفاءات بين الولايات المتحدة والصين، حينها كانت تحتبس الأنفاس على أمل تُترجم التصريحات إلى أرباح في أسواق المال والطاقة، كل تلك الملفات، بما فيها الحرب على الإرهاب أو محاولة إنعاش الاقتصاد الدولي، باتت تحتل المقاعد الخلفية.
خفتت كل تلك الأصوات، بعد أن اكتشف الإنسان حجم ضآلة الجنس البشري أمام فيروس تتعذر رؤيته بالمجهر، هذا التحدي الذي نمر به ليس مصدر تهديد وجودي لبني البشر، إلا أن استمرار ارتفاع الحرارة بمعدل درجة ونصف (حسب تقرير صادر من الهيئة الحكومية الدولية IPCC التابعة للأمم المتحدة بتاريخ 1 أكتوبر 2018 حول تغيّرات المناخ)، يهدد بتراجع يتجاوز 70% للبيئة الحاضنة للافقاريات، الحياة الميكروسكوبية في الشعاب المرجانية، وكذلك الحشرات التي تدخل في دورة إنتاج المحاصيل الزراعية، يحدث هذا فقط في حال استمر احترار الأرض عند ذلك المعدل، أما في حال تجاوز ذلك المعدل الدرجتين المئويتين، فإن التراجع في بيئة تلك الأشكال من الحياة سيصل إلى 99% قبل نهاية القرن.
الأضرار الأخرى، والتي تنكر لها وأنكرها الكبار، وعلى رأسهم الولايات المتحدة والصين (قمة الأرض في البرازيل 1992/ ميثاق كيوتو 2009/ ميثاق باريس 2015)، ستشمل ارتفاع منسوب المحيطات، مما يعني تراجع حجم اليابسة على كوكب الأرض وغرق الأراضي المنخفضة، كذلك الحال فيما يتعلق بتحول حالات الجفاف إلى مديات مهددة للحياة، كما شهد العالم على ذلك خلال حرائق أستراليا التي أفنت الملايين من أشكال الحياة الفطرية من حيوان ونبات، إمتداد تلك الأضرار لن يقف عند هذا الحد، بل سيمتد ليغير من طبيعة بعض الأمراض والأوبئة كنتيجة، مثل فصيلة مرض السل الجديد المقاوم للمضادات التقليدية والمستحدثة.
لطالما كان الإنسان قادراً على مواجهة التحديات، إلا أن العالم كان بحاجة إلى شكل آخر من الواقعية بدل الواقعية التي يفرضها الكبار، في عالم تتقاسمه كل أشكال الحياة على كوكب الأرض، وقد يكون فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) قاسياً بما يكفي ليصحو العالم على حقيقة الجشع الذي تجاوز المنطق والعقل، وإليكم مثال، فبحسب تقرير صادر عن إدارة الثروات في مصرف كريدي سويس في عام 2017، تناول تحديداً الفجوة في توزيع الثروة بين الأفراد البالغين حول العالم، والذي قدر تعداده حينها بسبعة مليارات نسمة، ونسبة البالغين 3.7 مليار إنسان، إلا أن 0.7% منهم يسيطرون على 140 تريليون دولار، وتمثل ما نسبته 50% من إجمالي ثروات الأفراد، والمقدرة بحوالي 280 تريليون دولار، هذه الفجوة تزداد اتساعاً منذ الألفية، وازداد حجم تركز الثروة عند هذه الفئة، بعد انهيار أسواق المال في 2008، وكانت الطفرة الأخرى في 2013، فهل كان لذلك تأثيراته على منظومة القيم النسبية والمتعارف عليها؟ ففي حين كانت تلك الثروات تنمو بأشكال فلكية، كان العالم يتفكك من حولنا، وها نحن اليوم نعيش واقعاً جديداً على خلفية هذا الفيروس الذي أرعب الجميع.
الجشع البشري هو مصدر تهديد كل أشكال الحياة على كوكب الأرض وليس الإنسان فقط، وإن اعتقد البعض أن هذا الإنفلات اللاعقلاني بين نسب نمو الثروة وتوزيعها غير العادل (العدالة الاقتصادية)، قد ينتج منظومة قيمية قادرة على ضبط إيقاع السلوك البشري، فهو بلا شك حالم، هل لنا أن نتصور لو طالبت الهيئة الحكومية الدولية IPCC قبل أسبوعين بإيقاف كل أشكال المواصلات حول العالم ولمدة أسبوع، لإعطاء رئة الكوكب (الغابات) فرصة لتنقية الهواء، وإزاحة أطنان من الانبعاثات المساهمة في الاحتباس الحراري، بالتأكيد كان الجواب سيكون لا، واليوم تتوقف كل أشكال الحركة البشرية وجل منظومة المواصلات من صنع البشر.
ربما يضعنا هذا التحدي في مواجهة مفاهيمنا الحاكمة للحياة، وإن فشل إنسان هذه الساعة على التعامل بشكل مسؤول مع واقعه اليوم، فهو موعود بدروس أكثر قسوة في المستقبل غير البعيد.
*كاتب بحريني