لم يكن أكثر المتشائمين من المتظاهرين العراقيين الذين أسقطوا رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي قبل أشهر، يتوقع أن يجد نفسه اليوم محاصراً بين كماشتي «الطرف الرابع: فيروس كورونا»!
كان المتظاهرون في الشارع العراقي واثقين من أنهم سيعبرون مرحلة «العراق المريض» خلال فترة وجيزة. ظلوا طوال الأشهر الأربعة الماضية يرفضون «بدلاء» عادل عبدالمهدي واحداً بعد الآخر، ظناً منهم أنهم قادرون على تمرير اسم رئيس مجلس الوزراء الذي يريدونه، وفرضه بالقوة على البرلمان المتشكل في غالبه منه «كتل طائفية».
كانوا يظنون أن بقاءهم في الشارع، وضغطهم على الكتل السياسية المتصدرة للمشهد السياسي في العراق منذ سنوات، سيحوّل البلاد خلال أشهر قليلة إلى واحة من المدنية والديموقراطية. فعلوا كل ما كان يجب عليهم فعله. اقتدوا بسلوك ثوار العالم على امتداد التاريخ. قالوا لا لمن يتسيد المشهد السياسي في بلادهم، ووقفوا بصدورهم العارية أمام رصاص «الطرف الثالث» الذي لم يُعرف حتى الآن من أمره بإطلاق النار، ولا من أخفاه عن الأنظار بعد ذلك.
كل شيء يفعله الثوار فعلوه، لكن فات عليهم أن يضعوا في حسبانهم عاملين مهمين جداً. الأول هو إمكانية تطور الأحداث مع الزمن، وتعقّدها من خلال دخول متغيرات جديدة ليست في مصلحتهم مثلما حصل مع جائحة كورونا، والثاني يتمثل في أن كل عملية تغيير جذرية تستلزم وجود مرحلة وسيطة تنقل البلاد من مرحلة الفشل واللاجدوى السياسية، إلى دولة المدنية والمواطنة. مرحلة وسيطة ليست بيضاء، وليست سوداء. ليست ديمقراطية خالصة، وليست ديكتاتورية خالصة. مرحلة تحمي حقوق الإنسان، لكنها لا تعطيه الكثير من الحريات! بل إنها في أحايين كثيرة قد تقسو عليه بلا سبب واضح!
جاءت «كورونا» للوجوه السياسية المعتادة في المشهد العراقي «الطرف الثاني» على طبق من ذهب. أعادت المحتجين إلى بيوتهم بالقوة، وأخرجت كل الزعامات القديمة التي توارت خلال الأشهر الماضية بشكل مؤقت، خضوعاً لرغبة الشارع، وخوفاً من انتقامه. عادت هذه الزعامات لتفرض من جديد رؤيتها القديمة التي تحمل عنواناً واحد فقط: «سنة أولى لبنان»!!
اختفى صوت الشارع، وتعالت أصوات المختلفين في اللقاءات الطائفية والجهوية من جديد، وبدأوا في ممارسة لعبة «اللبننة» من جديد: العراق ليس هو بلدنا، وإنما الدولة هي الطائفة! وهنا لا أجد في الحقيقة فرقاً كبيراً بين أن يتمكن «عدنان الزرفي» من تشكيل حكومة جديدة بمباركة مجلس النواب في الأيام القليلة المقبلة، أو أن تتمكن الكتل الشيعية المعارضة له من إقصائه والإتيان بمصطفى الكاظمي كبديل له. لا فرق أبداً بين الرجلين ما دام الزعماء التقليديون هم من يديرون المشهد من وراء ستار كما هو الوضع في البلد الأصل: لبنان!
أما العامل الثاني الذي لم ينتبه له المحتجون في الشارع، فهو الحاجة لصناعة مرحلة وسطى تنقل البلد من تاريخه القريب المليء بالخيبات السياسية والاقتصادية، إلى مرحلة مزدهرة تجعل منه بلداً قادراً على الاستفادة من ثرواته وموارده الطبيعية التي تكفي حاجته وتزيد.
لا جيش في العراق الآن يستطيع أن ينقل البلد من مرحلة إلى مرحلة، كما حدث في السودان ومصر وتونس، وبالتالي فظهور «سوار ذهب عراقي» في المرحلة الحالية يُعد أمراً صعب الحدوث، لكن المتظاهرين قادرون بشكل أو بآخر على تسمية «حكومة ظل»، تحصل على مباركة الشعب «الطرف الأول دائماً وأبداً» من خلال استفتاء عام، وتتولى مقاليد الأمور في البلاد لفترة معينة تستطيع فيها إصلاح مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية، ثم تحل نفسها وتدعو لانتخابات عامة بعد ما يكون الشعب العراقي قد وعى حجم الدمار الذي خلفته الارتهانات لزعماء سياسيين مرتهنين في الأصل لإملاءات خارجية.
*كاتب سعودي