تحتاج الصناعة إلى العلم، وتزدهر بازدهار العمران لكفاية حاجات الناس. ورسوخ الصناعة في الأمصار إنما هو رسوخ للحضارة. فالحضارة الحديثة في أساسها حضارة صناعية وليست زراعية ولا تجارية. وتتوقف الصناعة على السوق وحاجاته، أي على العرض والطلب. وانقضاء الصنائع نذير بالخراب. ومن يمتلك القدرة على الصناعة قادر على امتلاك باقي الصنائع وباقي الملكات. فالصناعة أم الحرف، تكسب صاحبها عقلاً ومهارة وذكاءً وثقة بالنفس. وللصناعة قيمها، مثل الوقت والسرعة والآلية والوفرة والدقة والإتقان. وهناك فرق بين الصناعات الخفيفة والصناعات الثقيلة، بين الصناعات الاستهلاكية والصناعات الإنتاجية، بين الصناعات التحويلية وصناعة المصانع ذاتها. ومازال العالم العربي خارج مجموعة الدول الثمانية الكبرى الأكثر تصنيعاً. ومازالت الصناعة العالمية متركزة في أوروبا وأميركا، إلى جانب المراكز الصناعية الجديدة في آسيا، مثل اليابان والصين وكوريا وتايوان وسنغافورة وماليزيا وإندونيسيا والهند.
أما الحكم بأن العرب أبعد الناس عن الصنائع، فهو حكم ينقضه تاريخ العرب نفسه وباعهم الطويل في العلوم والصناعات. والتصنيع الحديث منذ دولة محمد علي باشا حتى الجمهورية الأولى في عهد الثورة المصرية، استطاع أن يفرض نفسه على خطط التنمية الحديثة. وهو حكم ضمن باقي الأحكام السلبية على العرب مثل تخريب العمران، والعجز عن إدراك المركبات، وأنهم من البدو وليسوا من الحضر على الرغم من حضارات المدن في اليمن والحجاز والعراق، وأنهم من المتوحشين على الرغم من رقة حاشيتهم كما يظهر في الشعر العذري وفي الشعر الصوفي، وأنهم أبعد الناس عن الصنائع على الرغم من ازدهار الصناعة عند القدماء منهم، وأن لغتهم مستقلة لم تعد لغة مضر وحمير مع أن القرآن حفظها من الانقطاع في ألفاظها وأساليبها وحافظ على استمرارها في التاريخ.
وأمهات الصنائع هي الصناعات المختلفة، وفيها تدخل الصناعات الزراعية التي تعتمد على الفلاحة وتحويل المنتجات الزراعية إلى صناعية. وهو ما يسمى بلغة العصر الصناعات التحويلية. وهناك صناعة التجارة، وهي الصناعة المرتبطة بالتجارة مثل صناعة وسائل المواصلات وطرق النقل القديمة والعربات والحديثة مثل الشاحنات والقطارات والسفن وطائرات الشحن. ومنها أيضاً صناعة البناء وتشييد الصوامع والمساكن والخزانات والسدود والجسور والقنوات. ومنها صناعة النجارة وكل ما يتعلق بالصناعات الخشبية للأثاث والمنازل. ومنها صناعة الخياطة والحياكة وصناعة الملابس والخيم. ومنها صناعة التوليد التي تقوم بها القابلات، وهي قرينة لصناعة الطب التي تحتاجها الحواضر والأمصار أكثر من البادية، وتتعلق بها صناعة الأدوية وعلوم النبات والعقاقير. ومنها أيضاً صناعة الوراقة للكتابة والتدوين. وقد كانت لها أسواقها الخاصة بالوراقين مع صناعة النسخ والخط والكتابة. ومنها صناعة الحساب ومسك الدفاتر والسجلات التجارية. وأخيرا تأتي صناعة الغناء والموسيقى والرقص، وهي صناعة للترويح عن النفس والاستمتاع بالحياة في حضارة جوهرها الشعر.
وقد تطورت الصناعات الآن إلى صناعة الصواريخ والطائرات والبوارج الحربية ومركبات الفضاء والأقمار الاصطناعية ووسائل الاتصال الحديثة. وقد تحولت الصناعات التقليدية من الحرفية اليدوية إلى الآلية الجماعية، ومن صناعة الدكاكين والأسطوات إلى صناعة الشركات الوطنية الكبرى أو المتعددة الجنسيات. وكلما صغرت الصناعة في حجمها كبرت في أهميتها مثل صناعة الساعات والشرائح الإلكترونية.

*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة