التراث الديني كنز معرفي كبير، وإرث حافل بما يختزنه من قيم الاعتدال والتسامح والانفتاح والتنمية، واستيعاب الحوادث والتطورات المعاصرة. والدعوة لتجديد هذا التراث وتطويره تنطلق مما يمتلكه التراث نفسه من تلك السمات، وقدرته الذاتية على هذه المسايرة، شرط تحرير العقول من الأيديولوجيات المتشددة، واستحضار واقع الأوطان وأحوال المجتمعات، والإسهام في إيجاد الحلول لقضاياهم، ولهذا فإن مصطلح «اختطاف الدين« يحيلنا مباشرة على إشكالية «وعي المتطرف»، التي هي أكبر إشكالية واجهت التراث في الماضي والحاضر، فهو الذي يلوي أعناق النصوص، ويستخدمها في مآربه وأهدافه الخبيثة، وانتماءاته الضيقة.
أما تراثنا الديني نصوصاً وتفسيرات، فقد كان دائماً طوال مئات القرون مثاراً للاجتهادات، وبلسماً شافياً للمجتمعات، وقبساً للحضارات، ومن هنا فإننا في تراثنا الحضاري نجد نقاشاً راقياً بين الفقهاء وعلماء الأصول، حول التجاذب القائم بين أصلين هما حفظ النفس وحفظ الدين، ولأنه لا يمكن تفصيل هذه المسألة والأقوال المرتبطة بها، وأدلتها، نشير في هذا المقال إلى تلك الأصول الراقية التي قررها التراث في هذه المسألة، واعتمد عليها العلماء في تقرير مذاهبهم، وهم يناقشونها مثل: «حق الآدمي مرجح على حقوق الله» و«تقديم حق العبد على حق الله تعالى»، و«ترجيح مصلحة النفس على مصلحة الدين» و«تقديم صون النفوس والأعضاء والمنافع على العبادات».
ولا شك أن المتطرفين تؤزهم هذه المنطلقات الإنسانية إزاً، وتزعجهم إزعاجاً شديدا، لكن فقهاءنا يسطرونها في مدوناتهم بفخر واعتزاز، ويؤكدون معها أن حق الآدمي مبني على المضايقة، أما حق الله فمبني على المسامحة، فلا يضر فوته للضرورة، تلك الأصول، والضوابط الفقهية الأخرى من رفع المشقة ودفع الضرر والكليات الخمس، هي التي تمد اليوم مجالس الإفتاء وكبار المفتين والمؤسسات الدينية بمساحة واسعة، وميدان فقهي خصيب؛ يجد فيها المفتي نفسه يبدع حلولا، ويقدم فتاوى سمحة تستجيب لإكراهات هذا الجوائح والوباء، مع احترام تام لاختيارات المؤسسات الدينية وفق ما يستجيب لواقع كل مجتمع وظروفه.
إن الناظر إلى هذا الفقه التراثي يكاد يظن في أول وهلة بأن تلك النصوص والأصول قد أنزلت على واقعنا، وهذه الحادثة التي نزلت بالعالم كأنها قد أُصّلت بتلك المبادئ، حيث كان علماء الأصول السابقون يمثلون بمثال أحوج ما نكون إليه اليوم، فيمثلون لهذه المسألة قبل مئات القرون «بترك الجمعة والجماعة» من أجل حفظ شيء من المال، فما بالكَ بالنفس، يقول القرافي المالكي، أحد علماء المالكية المعتمدة كتبهم في المذهب المالكي:(ت 684 هـ) في «كتاب الفروق»، وهو من الكتب الأساسية في الفقه وأصوله: (ويقدم صون النفوس والأعضاء والمنافع على العبادات، فيقدم إنقاذ الغريق والحريق ونحوهما على الصلاة إذا كان فيها، أو خارجا عنها وخشي فوات وقتها، فيفوتها ويصون ما تعين صونه من ذلك، وكذلك يقدم صون مال الغير على الصلاة إذا خشي فواته، وهو من باب تقديم حق العبد على حق الله تعالى، وهي مسألة خلاف، فمنهم من يقول حق الله يقدم؛ لأن حق العبد يقبل الإسقاط بالمحاللة والمسامحة دون حق الله تعالى، .... ونظائر هذه المسائل كثيرة في الشريعة).
ويأتي أحد علماء الحنفية ليختصر حكمة الأصوليين وملحظهم القائلين بتقديم حفظ النفس والمال على حفظ الدين، ويقرر أنه على هذا الأصل يبني ترك الجمعة والجماعة، فيقول ابن أمير الحاج في كتابه في أصول الفقه «التقرير والتحبير» (ت: 879) : (وقيل: يقدم المال أي حفظه فضلا عن حفظ النفس والعقل والنسب على حفظ الدين، كما حكاه غير واحد،... وقد كان الأحسن تقديم هذه الأربعة على الديني لأنها حق الآدمي، وهو مبني على الضيق والمشاحة، ويتضرر بفواته، والديني حق الله تعالى وهو مبني على التيسير والمسامحة، وهو لِغناه وتعاليه لا يتضرر بفواته، لذا أي تقديم هذه على الديني تترك الجمعة والجماعة وهما دينيان؛ لحفظه، أي المال وهو دنيوي).
إن الآفة في التعامل مع تراثنا الديني هي العقلية المتطرفة التي لا تستعمل مع التراث إلّا منهج الاجتزاء، فأدى بها ذلك المنهج -عن قصد- إلى التشدد وتضييق الأفق والانغلاق، والعزلة على الذات وكراهية الآخر ورفض واقع المجتمعات، فأصبحت هذه الرذائل الفكرية مكونا من مكونات عقليتها، لا تنفك عنها في قراءة التراث، وأقوى مواجهة لهذه العقلية؛ إنما تكون بالرد عليهم من صميم التراث بعد فهمه الفهم المنضبط السليم.
*المدير التنفيذي للشؤون الإسلامية في الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف