المحاولة الثالثة قد تكون الثابتة لتشكيل حكومة جديدة، بعد توافق المكوّنات الثلاثة على ترشيح مصطفى الكاظمي لرئاستها، وإذا تمكّن من العمل بشروطه في اختيار الوزراء، وهذا ممكن، فمن شأن ذلك أن يوسّع هامش استقلالية حكومته، ويؤسس لتجربة أولى من نوعها، منذ سقوط النظام السابق وتقلّبات النظام الجديد بين احتلال أميركي وهيمنة إيرانية. ما يمكن أن يساعده، بالإضافة إلى اقتناعاته، أن السبعة عشر عاماً من التخبّط والصراعات الداخلية ومحاربة الإرهاب واستفحال الفساد، أوصلت الجميع إلى آفاق مسدودة.
يشبه الكاظمي بنظرته إلى العراق، عدداً محدوداً جداً من الذين تولّوا المسؤولية في بدايات النظام الجديد، ولا سيما إياد علاوي، لكنه يختلف عنهم جميعاً، بكونه تولّى رئاسة جهاز المخابرات منذ 2016 ورغم عدم خبرته، استطاع أن يديره بمهنيّة ويحقّق أفضل أداءً خلال الحرب على «داعش» وما بعدها، لكنه حافظ على صداقاته في وسط المثقفين والحقوقيين والإعلاميين، وكان يصارحهم بحنينه للعودة إلى البحث والكتابة بعد مغادرة الجهاز. وحين كان يُسأل كيف يتدبّر أموره بين الأميركيين والإيرانيين ومن يواليهم من أحزاب وميليشيات، كان يجيبهم بواقعية مَن يعمل لدرء أذى التناقضات لا مَن يديرها، وبواقعية مَن يعتقد أن الأوضاع الشاذة لن تدوم لأن ظروفاً داخلية تتراكم ببطء، لكن بثبات، لتتيح تغييرها.
يغادر الكاظمي جهاز المخابرات إلى المعترك الأصعب، كان اسمه مطروحاً منذ اضطرّ عادل عبد المهدي للاستقالة تحت ضغط الانتفاضة الشعبية، ومع أنه لم يسعَ عملياً إلى المنصب، فقد بدا مرشحاً مقبولاً من الشارع، خلافاً لآخرين راغبين، لكنهم رُفضوا. كانت أحزاب «البيت الشيعي» الموالية لإيران تعتبره «رجل أميركا» لتبرر استبعاده، ولما أخفقت في التوافق على مرشح لها، بادر رئيس الجمهورية برهم صالح إلى تكليف عدنان الزرّفي الذي انقسمت مواقف تلك الأحزاب منه، إلى حدّ أن بعضاً من الميليشيات وصفه بـ «مرشح الاستخبارات الأميركية»، أما الأحزاب فتخوّفت من نعرته «العراقية» وإنجازاته المحلية في محافظة النجف، وبالأخص من العصبية الداخلية التي راحت تتبلور حوله، متلاقيةً مع التوجهات المعادية لإيران في الوسط الشيعي نفسه.
عند هذا الحدّ من التشرذم والعبث، اضطرّت طهران لقبول الكاظمي الذي عرفته من خلال العمل معه في الجهاز. واستطراداً، اضطرّت الأحزاب الشيعية لقبوله، وإن بقيت متوجّسةً منه لسببين: أولاً، لأنه سيكون رئيس الوزراء الأول الآتي، بعد علّاوي، من خارج منظومتها السياسية والإيديولوجية. وثانياً، لأنه بحكم علاقاته وكتاباته السابقة يريد العمل بعقلية رجل الدولة، وبشروط لا تخرج عن منطوق الدستور وسيادة الدولة. وهذا في حدّ ذاته مشكلة بالنسبة إلى العقلية الميليشياوية.
ليس سرّاً أن الكاظمي يناوئ أي سلاح خارج سلطة الدولة، لكنه لن يعالج تفلّت «الحشد الشعبي» بالصدام معه، بل بالقانون الذي «شرعن» وجود هذا «الحشد»، ولم يسمح «الحشد» نفسه بتطبيقه. وليس سرّاً أن الكاظمي لا يعادي الوجود الأميركي لأن العراق يحتاج إليه، لكنه لا يعادي إيران كدولة جارة، بل يتطلّع إلى أن يكون نفوذها عامل استقرار للعراق. ومن هذا المنطلق، فإن مسألة بقاء الأميركيين أو انسحابهم تنظّم بمقاربة من دولة إلى دولة، وليس بصواريخ تطلقها ميليشيات على القواعد العسكرية.
*محلل سياسي- لندن