«وإذا لم يكن من الموت بد/// فمن العجز أن تموت جباناً» (المتنبي). مثّل الخوف الزائد في جائحة «كوفيد -19» تحدياً كبيراً يفوق المرض نفسه، ويفوق تحديات أخرى واجهتها الإنسانية بسبب الكوارث والصراعات والحروب والعنف والكراهية، ومن المرجح أن تنشئ تجربة مواجهة الخوف متوالية من المبادرات والتحولات الكبرى في التقدم الإنساني، فقد تحولت مبادرات إنسانية واجتماعية سابقة إلى ضرورات عالمية ووطنية كبرى، مثل الأخوة الإنسانية والتضامن العالمي، ومواجهة الفقر بما هو سبب للمرض، وقيم الفردية الإيجابية كضامن للأخلاق والعقد الاجتماعي، وإعادة بناء المعنى الذي يمنح الإنسان قدرة ذاتية على العمل والتعلم والعلاج واكتساب المعنى (الذات الفاعلة)، وصعود قيم النزاهة والثقة والإتقان كمحركات للأسواق والعلاقات الدولية كما النسيج الاجتماعي، وتحول التماسك الاجتماعي والمنعة الذاتية والجماعية والوعي والذكاء الجمعي ومهارات الحياة.. إلى أولويات مباشرة للحكومات ومؤسسات التعليم والتنشئة والتدريب، ويتوقع أيضاً أن يأخذ طب الأطفال والشيخوخة اهتماماً مضاعفاً من المؤسسات الصحية والبحثية، ومن المؤكد أن ارتفاع معدلات العمر تقتضي بالضرورة أن تصاحبها سياسات واتجاهات صحية واجتماعية، تساعد الإنسان أن يظل قادراً على مواصلة العمل والاستمتاع بحياته مهما طال به العمر، وإلا فإن التقدم الصحي يتحول إلى ضده، إذا كان يعني أن يطول عمر الإنسان، لكنه معرض للمرض والخوف ونقص المناعة والعجز عن ممارسة حياته، كما كان قبل أن يتقدم به العمر، لقد ظهر كبار السن كقضية صحية واجتماعية كبرى، وبات الابتعاد عن كبار السن، يعد مساعدةً لهم بعدما كان عقوقاً وتخلياً عنهم.
وصعدت الأسرة كشريك مهم وأساسي للمجتمعات والمؤسسات في التعليم والعمل والرعاية الصحية، وعادت بعد أن كانت قد انسحبت إلى الظل في مرحلة الدولة المركزية الحديثة، التي تولت على نحو مباشر عمليات التعليم والرعاية والتنظيم الاجتماعي والأخلاقي، لكنها تعود اليوم كمؤسسة فاعلية وأساسية في التنشئة والتعليم والمشاركة العامة، وقد ظهرت على نحو جلي، ومؤكد أن عمليات الرعاية الصحية والتغذوية للأطفال في السنوات الخمس الأولى تشكل دوراً حاسماً في مستقبلهم وفرصهم في الحياة مدة زمنية أطول، وفي مستوى تعليمي وصحي ونفسي وعقلي واجتماعي لائق وكريم، وبالطبع فسوف تنشأ وتتطور سياسات وبرامج مشاركة وتدريب معقدة وكثيفة، لتكون الأسر قادرة بشكل خاص على رعاية الأطفال وكبار السن، على النحو الذي يساعدهم في التكيف الاجتماعي والنفسي، ويؤهلهم لأداء دورهم والمشاركة الصحيحة والفاعلة، وفي ذلك أيضاً يمكن تخفيض نفقات الرعاية الصحية والاجتماعية والتعليمية، في مرحلة يتجه فيها العالم إلى التقشف والانكفاء على الذات، والتخلص من كل حمولة زائدة في الإنفاق والحياة والعمل.
إن الخوف حقيقة راسخة في الحياة، بل هو الغريزة الأساسية في الحياة التي توجه الإنسان نحو القدرة على البقاء وتحسين الحياة، لدرجة أن الحياة نفسها يمكن وصفها بأنها الخوف، وفي الوقت نفسه يحتاج الإنسان للتحرر من طغيان الخوف، لأنه بذلك يستطيع أن يدرك الخطر ويتجنبه، ولا يمنعه من الحياة والمبادرة والتطور، وفي هذا التوازن الدقيق والمبدع يمكن أن نحول الخوف إلى طاقة إيجابية.
لقد أظهرت دول كثيرة، ومنها دولة الإمارات العربية المتحدة، في هذه الجائحة، شجاعة كبرى وتاريخية، عندما واجهت حالات الإصابة بشفافية ووضوح، ولم تخش من إظهار الحقائق كما هي، وفي الوقت نفسه بذلت كل ما يمكن للكشف عن الإصابات المحتملة، وطبقت سياسات العزل الصحي اللازمة، دون أن تتعطل الحياة والأعمال والمصالح، ففي ظل التطور والتعقيد في الأعمال والمؤسسات والأسواق، لا يمكن تطبيق العزلة الكاملة، كما لا يمكن الاستمرار في أسلوب الحياة والأعمال متجاهلين الوباء ومخاطره.

*كاتب وباحث أردني