لقد تم مؤخراً طرح فكرة خصخصة التعليم في الإمارات. وها هي الفكرة اليوم يتم مناقشتها وتداولها على مختلف الأصعدة. فهل تقتنع الناس بهذا الموضوع وتتبلور الفكرة إلى واقع ملموس؟ يبدو أنه في عالم اليوم أصبح الكثير مما كنا نستكره ونعترض على تطبيقه ممكناً حتى في مجال التربية التعليم، وأمراً واقعاً تقبلته الناس وتأقلمت معه، ثم وجب عليها التعامل معه. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر تأنيث عضوات الهيئة التدريسية في كافة المدارس الابتدائية، والتعليم باللغة الإنجليزية في الجامعات الحكومية، ولا نستبعد تطبيق فكرة الاختلاط في الجامعات والتي تراود الكثيرين منذ أمد بعيد، طالما أنها قد طبقت بالفعل في بعض الجامعات. وأي فكرة يتم تطبيقها دونما استنكار من الناس فهي في الحقيقة تعكس الرضى. وإن رضى الناس عن الفكرة التي تم تطبيقها قد يعبر عن تصويت بالأغلبية على الموافقة، أو يعبر عن جبن الناس وتخاذلهم. فإلى أين نحن ماضون؟! وما هي أهدافنا؟! وعمَّ يعبر إلغاء اللغة العربية من المناهج الدراسية؟! وهل التدريس باللغة الإنجليزية هو عنوان الحضارة؟! ولماذا إذاً لا تتخلى الدول الصناعية المتقدمة عن لغتها الأصلية (اللغة الأم) لتلحق بركب الحضارة باللغة الإنجليزية؟! وهل الخصخصة عملية اقتصادية محضة أم أن لها أبعاداً أخرى؟!.
في الحقيقة كل شيء قابل للخصخصة إذا ما فهمنا الخصخصة بمفهوميها الجزئي والكلي (أي الشامل)، وإذا ما فهمناها بأبعادها المختلفة وبأهدافها المتعددة واستراتيجياتها البعيدة المدى. إن قطاع التربية والتعليم والصحة والطب والأمن والشرطة بكافة قطاعاتها والدفاع والإعلام والخارجية وغيرها من القطاعات ذات الأبعاد الاستراتيجية جميعها قابلة للخصخصة الجزئية فقط ولكنها تتعارض مع أهداف واستراتيجيات وأبعاد الخصخصة الكلية. كيف؟! في الحقيقة إذا ما أردنا أن نفهم ذلك فلنحلل أهداف الخصخصة من الناحية الاقتصادية وهي الآتي:
1- تخفيض الأعباء المالية والإدارية عن الحكومة. وهي وسيلة من وسائل معالجة العجز في الميزانية العامة للدولة على المدى البعيد.
2- توسيع وتفعيل دور القطاع الخاص ومن ثم تشجيع المنافسة والحرية الاقتصادية والتقليل من تدخل الدولة في الاقتصاد.
3- تجني الحكومة بعض الأرباح من خصخصة المشاريع لعلها تستفيد منها في مشاريع أخرى.
فإذا ما أرادت الدولة مثلاً إسناد مسؤولية إدارة مستشفى عسكري أو المعدات الطبية التي تورد إليه أو الأدوية التي تورد إليه إلى القطاع الخاص، أو إسناد مسؤولية إدارة المؤتمرات العسكرية، أو إدارة بعثات التعليم إلى القطاع الخاص، فإن ذلك يعبر عن خصخصة جزئية لقطاع الدفاع، وهو أمر ممكن جداً اقتصادياً، وقد لا يتعارض مع أهداف الدولة الأمنية ولا مع رؤيتها الاستراتيجية، إلا إذا رأى المختصون بالأمن غير ذلك. وإذا ما أرادت الدولة أن تسند مسؤولية استيراد وتوفير المعدات الأمنية لأجهزة الشرطة إلى القطاع الخاص، أو إسناد إدارة المطبوعات والمنشورات الشرطية، أو إدارة المؤتمرات الشرطية إلى القطاع الخاص، فإن ذلك يعتبر خصخصة جزئية للقطاع الأمني والشرطي وهو أمر ممكن جداً من الناحية الاقتصادية، وقد لا يتعارض مع الأهداف الأمنية للدولة إلا إذا رأى المختصون بالشؤون الأمنية والشرطية غير ذلك.
وإذا ما أرادت الدولة خصخصة قطاع التربية والتعليم فإن عملية خصخصته يجب ألا تكون كليةً، وإنما تبقى خصخصة جزئية، كما أنها يجب أن تتم على مراحل. إن قطاع التربية والتعليم قطاع حساس ويرتبط به مصير الأجيال. وهو منبع القيم والأدب والأخلاق والتربية، وهو مفتاح التعلم والتقدم والرقي. وبالتالي فلا يمكن للدولة أبداً أن تتخلى عن دورها في تربية وتنشئة الأجيال وتعليمهم إلى القطاع الخاص لأجل تحقيق أهداف الخصخصة التي ذكرناها. إن أهداف الخصخصة أهداف اقتصادية مالية محضة، ولا تعير اهتماماً يذكر للأبعاد التربوية والثقافية والأخلاقية والاجتماعية والدينية، ومن هنا تنبع أهمية دور الدولة في قطاع التربية والتعليم. بيد أنه لا يستطيع أحد أن يجزم بمدى قدرة القطاع الخاص على وضع مناهج دراسية قد تفوق المناهج الحكومية أحياناً حتى في المجالات الاجتماعية والأخلاقية والثقافية والدينية والقيمية، فالميدان التربوي مليء بتلك النماذج، خصوصاً في الدول التي تقوم فيها الأنظمة السياسية بتكييف المناهج الدراسية وتوجيهها وفقاً لمنهجية سياسية معينة. حيث إن قوى العرض والطلب هي التي تحدد رغبة العملاء في حالة الخصخصة. ولا شك أن الدولة قد تحقق مكاسب اقتصادية كبيرة في حالة خصخصة قطاع التربية والتعليم، غير أنها هي الخاسر الأعظم من النواحي السياسية والاستراتيجية والاجتماعية والثقافية. ولا يمكن للدولة أن تبدأ بخصخصة المدارس، وذلك لعدة أسباب منها ما هو اقتصادي، حيث إن العديد من الناس لديهم أعداد كبيرة من الأولاد ودخولهم متدنية، إلى درجة أنهم يكادون بالكاد يوفرون التكاليف الضرورية للمعيشة، وأن التعليم في حالة خصخصته يصبح لديهم من ا