عندما أنشئت كليات التقنية العليا في الثمانينيات من القرن العشرين كان الهدف الرئيسي من إنشائها هو تخريج دفعات من الخريجين حملة شهادات الدبلوم ذات المستوى الأدنى من شهادات البكالوريوس والليسانس. غير أن الكليات بدأت تطور ذاتها وتطرح برامج ومناهج منافسة للمستويات الجامعية فتغيرت بالتالي طبيعتها وتغيرت أهدافها. ورغم استمرار حاجة الدولة إلى كوادر مؤهلةً تأهيلاً فنياً وتقنياً دون مستوى البكالوريوس، إلا أنه لم يتم إنشاء كليات ومعاهد فنية تغطي حاجة الدولة وتملأ الفراغ الواضح في سوق العمل وتستغل الطاقات البشرية استغلالاً حسناً يعود بالمنفعة للفرد وللدولة. فبعد أيام قلائل تقبل علينا امتحانات الثانوية العامة، ومن حكمة الله سبحانه في الكون أن جعل البشر متفاوتين في كل شيء. أي أنهم متفاوتون في أرزاقهم وألوانهم وأشكالهم وقدراتهم البدنية والذهنية والاستيعابية وميولهم واستعداداتهم النفسية والاجتماعية وغير ذلك. قال الله تعالى: "أهم يقسمون رحمت ربك، نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحيوة الدنيا، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا. ورحمت ربك خير مما يجمعون". (الزخرف 32). وتبقى الحاجات البشرية متشابهة، فلماذا لا يتم التفكير في كافة المواطنين والنظر إليهم كموارد اقتصادية بشرية لابد من تأهيلها بما يتناسب مع قدراتها الذهنية والجسدية واستعداداتها. أي بمعنى آخر عندما تصر كافة الجامعات والكليات الحكومية على رفع نسبة قبول الطلبة فيها بحجة رفع المستوى العلمي لتلك الجامعات، لماذا لا توجد بدائل لأصحاب النسب المنخفضة؟ فإذا كانت المجتمعات اليوم تهتم بوضع برامج تأهيلية ومناهج دراسية تتناسب مع ذوي الاحتياجات الخاصة، بل وتذهب إلى أبعد من ذلك في إيجاد وظائف لبعض الحيوانات، فإنه من باب أولى أن تهتم الدول بالموارد البشرية من ذوي النسب المنخفضة. فكم من أناس حصلوا على نسب منخفضةٍ في امتحانات الثانوية العامة، وعندما اكتشفوا مواهبهم واستغلوها الاستغلال المناسب تفوقوا وأصبحوا من المبدعين. وكم من أناس حصلوا على نسبٍ عاليةٍ، ثم فشلوا بعد ذلك في دراساتهم عندما لم يوفقوا في اكتشاف مواهبهم ومن ثم اختيار التخصص المناسب لهم. فكل سنة يتخرج من الثانوية العامة آلاف الطلبة بنسب منخفضة، وفي الوقت ذاته يرسب أيضاً آلاف الطلبة وقد يصابون بالإحباط عندما تنسد الطرق أمامهم ولا يعرفون أين يذهبون وما هو مصيرهم.
لا شك أن كافة الموارد البشرية هي موارد قابلة لأن تكون منتجة وداعمة للتنمية الاقتصادية إذا ما تم اكتشاف قدراتها الكامنة واستعداداتها وميولها وتوجيهها واستغلالها الاستغلال المناسب.
لا شك أن الموارد البشرية هي الثروة الحقيقية للأمة، ولا يمكن لأي أمة أن تنهض وتتحضر وتحقق أهدافها إلا إذا أولت موضوع الثروة البشرية الأهمية التي يستحقها. وهذا في الحقيقة ما ظل يؤكد عليه ويعمل من أجله المغفور له الشيخ زايد رحمه الله رحمةً واسعةً وأسكنه الفردوس الأعلى إن شاء الله تعالى طوال الفترة الماضية من عمر الاتحاد. ولقد أكد على النهج ذاته صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة أطال الله عمره وبارك فيه، وهو بالطبع حريصٌ على مستقبل الموارد البشرية في الدولة، وذلك انطلاقاً من إيمانه العميق بأهمية دور الموارد البشرية في التنمية الاقتصادية. والحقيقة أننا في الإمارات، رغم كافة الجهود التي بذلت في هذا المجال، إلا أننا ما زلنا دون مستوى الطموح. فمشكلة البطالة بين المواطنين ظاهرة واضحة لا تحتاج إلى دليل أو برهان. فكيف السبيل إذاً إلى تفعيل قضية توطين القوة العاملة؟ أن التساؤلات التي تطرح ذاتها هي: ما هي بيانات التوطين الدقيقة في القطاعين الحكومي والخاص؟ وما هو سلم الأولويات في التوطين في القطاعين الحكومي والخاص؟ ولماذا لا تقتنع منشآت القطاع الخاص بالتوطين لتبدأ من ذاتها بوضع استراتيجيات وبرامج محددة وآليات واضحة للتوطين؟ وهل تتساوى التكلفة الحدية للعنصر الوطني مع الإيراد الحدي له. أي بمعنى آخر ما هي إنتاجية العنصر الوطني؟ ألا يضيف العنصر الوطني إضافة مميزة للإنتاج تختلف عمَّا يضيفه العنصر الوافد؟ أم أن القضية لها أبعاد أمنية واستراتيجية تماماً مثل التوطين في الأجهزة الأمنية؟ وفي مثل هذه الحالة الأخيرة، وهي الصحيحة، يكون للعنصر الوطني بالفعل إنتاج أمني واستراتيجي ومعنوي ضمني لا يمكن تقديره بالحسابات المالية المجردة. وقد أوضحت الأحداث والمتغيرات المعاصرة أهمية البعد الأمني والاستراتيجي والمعنوي في التنمية الاقتصادية. بل إن تجارب كافة الدول الصناعية في القطاع الخاص، وبشكل خاص القطاع المالي كالمصارف والتأمين والاستثمارات المالية والنقدية تركز على البعد الأمني والاستراتيجي، فلماذا لا نستفيد من تلك التجارب العريقة؟
في الحقيقة هناك عدة نقاط لابد من إبرازها في هذا المجال وذلك نظراً لأهميتها وهي كالآتي:
(1) يجب أن يتم بناء التوطين على قاعدة فلسفية علمية منظمة تتبناها الجهات الحكوم