دخل دستور قطر الدائم حيز التنفيذ، مكرساً مرحلة جديدة من التطور السياسي والمؤسسي، الذي يمثل أحد أهم أركان برنامج عمل أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. والعمل بهذه الوثيقة يمثل مرحلة جديدة ومهمة من مراحل التحديث والعصرنة السياسية للأنظمة الوراثية في منطقة الخليج العربي، علماً بأن الدستور الجديد يلغي النظام الأساسي المؤقت والمعمول به في قطر منذ عام 1972، وجاء اعتماده من خلال مجموعة من الخطوات التدرجية والحضارية والضرورية في مثل هذا الانتقال، وعلى رأس هذه الخطوات القراءة والمشاركة الشعبية في وضع هذا الدستور، ومن أهمها الاستفتاء الذي جرى في 29 أبريل 2003 الذي وافق فيه أكثر من 96% من القطريين على الدستور.
وبما أن منطقة الخليج العربي ودوله بيئة جغرافية وثقافية متصلة، لابد لنا من أن نقرأ التجربة القطرية قراءة متصلة بالمحيط الذي حولها، وأول هذه الملاحظات الأسلوب التدرجي الذي سعت وتسعى إليه قطر في تحديث مؤسساتها وإطارها السياسي، ومثل هذا التدرج ضروري لجميع الدول الخليجية، فمن خلاله بالإمكان تقييم المراحل والاستعداد لها الاستعداد الصحيح، كما أن التدرج يعني أن النظم السياسية الخليجية، وهي تتخذ مثل هذه الخطوات، لن تصطدم بالتطبيق، وستوفق بين الحداثة والمشاركة السياسية، وحقيقة أنها نظم وراثية تعتمد شرعيتها على أسس تاريخية عميقة. فالتدرج يبقى الأسلوب الأمثل ولابد من البدء به عاجلاً لا آجلاً لأن كل ما حولنا قد تغير، من المشهد الاقتصادي إلى التركيبات السكانية والديموغرافية إلى الهياكل الاجتماعية. وفي هذا السياق نجد أن الدستور القطري الجديد ينص على أنه لا يجوز طلب تعديل أي من المواد قبل مضي عشر سنوات من تاريخ العمل به.
والجانب الآخر الذي يبرز في التجربة القطرية، هو المزاوجة بين التدرج والخطوات القادمة، وهو ما نعرفه اليوم بخريطة الطريق، فالرؤية ومنذ البداية كانت وتبقى واضحة، وهي السعي نحو إعادة ابتكار النظام السياسي ليكون نظام مؤسسات تزدهر في ظله المشاركة السياسية ودولة القانون، ويتمتع الفرد في هذا الإطار بالحقوق والحريات التي أصبحت مقاييس عالمية لا تحتمل الاختراع والتفسير. ونضيف أنه بدون وضوح الرؤية المستقبلية وخريطة الطريق يتحول التدرج غموضاً، والشفافية مطلوبة ولن نتمكن منها إلا بهذه المزاوجة ومن خلال برنامج زمني واضح.
مطالعة مواد الدستور القطري الجديد تبين لنا أننا أمام وثيقة متطورة وعصرية، ولكنها في الآن ذاته وثيقة عملية قابلة للتطبيق ضمن المناخ السياسي السائد في منطقة الخليج العربي. نرى ذلك جلياً في تعريف المقومات الأساسية للمجتمع القطري وسعي الدستور الجديد إلى توثيق الحقوق والحريات العامة بطريقة واضحة ومواكبة لتطور حركة التاريخ في العالم، ومن ضمنها النص الواضح الذي تكفل من خلاله الدولة لمواطنيها حق الانتخاب والترشيح وحريتهم في تكوين الجمعيات وحقهم في التجمع. ويبقى أن نتابع القوانين المنظمة لهذه الحقوق والحريات ونتأمل ألا تكون مكبلة وضيقة في تفسيرها وأن تماشي التوجه العام والمنفتح الذي كرسه أمير دولة قطر منذ توليه مقاليد الحكم عام 1995.
وفي تنظيمه للسلطات ينص الدستور على أن الشعب هو مصدر السلطات، في إشارة واضحة إلى تعزيز الشرعية التاريخية للأسرة الحاكمة بشرعية دستورية ومؤسسية حديثة. ومن هذا المنطلق يفصل الدستور السلطات فصلاً بيناً ويعطي مجلس الشورى السلطة التشريعية في البلاد، بينما يتولى الأمير، وبمعاونة مجلس الوزراء السلطة التنفيذية. وفي هذا النسق لا يوجد جديد في الطرح القطري، ولكن الجديد استعداد نظام حكم وراثي تقليدي وتاريخي لمواجهة استحقاقات المراحل القادمة. وتجدر الإشارة إلى التعامل المفصل للدستور القطري الجديد مع مسألة الخلافة السياسية وولاية العهد وفي تسع مواد من مواد الدستور المئة والخمسين.
وفي هذا الجانب نجد أن الدستور القطري يحاول التعامل مع المعادلة الأصعب في التجارب الخليجية، بين المحافظة على أسس النظم الوراثية المحافظة في المنطقة مع تحديثها للمرحلة المقبلة، فهذه النظم في المجمل نجحت في العديد من التحديات التي واجهتها وحافظت على الاستقرار وشجعت التنمية مع درجة لا بأس بها من الحريات العامة. والأطر الدستورية في هذه الحالة تأطير وتطوير لهذه التجربة، وتبرز هذه المزاوجة في المادتين 145 و146 في الدستور القطري الجديد. فبرغم أن الدستور خلق آلية لتعديل الدستور وضمن المشاركة الشعبية في هذه الآلية إلا أن الوثيقة استثنت الأحكام الخاصة بحكم الدولة والوراثة السياسية، كما استثنت من التعديل الأحكام الخاصة بالحقوق والحريات العامة، التي لا يجوز طلب تعديلها إلا في حدود منح المزيد من الحقوق والضمانات لصالح المواطنين.
مسيرة التحديث والمشاركة في قطر خطت خطوة كبيرة إلى الأمام من خلال العمل بهذا الدستور، والخطوة القادمة ضمن البرنامج القطري المتدرج، انتخاب مجلس للشورى يقوم بدوره الموسع ومن خلال صلاحيات حقيقية وواسعة، والذي تفسره